الأوسترالي ديفيد والش مقامر محترف، وجامع أعمال فنية، وثائر وعصامي، يتمتع بفهم عميق للفلسفة، وهو أيضاً له شخصيته الخاصة. عام 2011 افتتح متحف 171 مليون دولار أوسترالي للفن القديم والحديث (مونا) في هوبارت عاصمة تاسمانيا، وهي ولاية جزيرة الجنوب في أوستراليا، ومدينته، وأيضاً حيث يحتفظ بمجموعته الخاصة من الآثار القديمة، والفن الأوسترالي الحديث، والفن العالمي المعاصر.
والش بشخصيته الساحرة والغامضةأيضاً؛ لديه هيبة الشيخوخة، وهيئة تناسب هذه الهيبة: حذاء أحمر، بنطال جينز، جاكيت ماركة والش بيزلي، وشعر رمادي سابل يصل إلى كتفيه. تم لقاؤنا في حجرة فوق طابقه 43 بسيدني، بمنظر بانورامي (360 درجة) على المدينة والميناء، وهذه واحدة من ثمار أعوام عديدة من مقامراته الناجحة.
متحف (مونا) إما أنه لعبة رجل غني، أو حماقة رجل غني، ومن الصعب أن نقول أيهما هي الحال. ما هو واضح أن المتحف يصرف أكثر مما يربح، إذ يكلف مالكه 8 مليون دولار أوسترالي سنوياً، كما يفيد الاقتصاد التاسماني في مكان ما في مجال مكون من 65 إلى 79 مليون دولار أوسترالي في السياحة، وغيرها من الإيرادات كل عام. ويؤكد والش على أنه ليس محسناً، وأن متحف “مونا” ليس جمعية خيرية، وأنه لا يتلقى دعماً من الحكومة، وليس له مجلس إدارة، ومالكه حر في أن يكسب، وأن يقتني قطعاً فينةً أو أن يسحبها من السوق حسبما يختار، وبصمته واضحة في كل ما يخص المتحف في خروجه عن المألوف. فكتيبات المتحف المطبوعة على سبيل المثال تم الاستغناء عنها لصالح التقنية العالية لجهاز آيبود طورته إحدى شركات والش التي تتبع الزوار، وتزودهم بالمعلومات كما يرغبون، بما في ذلك تعليقات من المؤسس ذاته.
بمساهمة من والش؛ صمم المهندس المعماري الأوسترالي اليوناني الأصل نوندا كاتساليديس؛ مبنى متحف “مونا” حول تحفة فنية اقتناها والش عام 2005، وهي الجدارية الضخمة عن أسطورة الخلق للفنان الأوسترالي سيدني نولان (الثعبان)/ 1970- 1972؛ والمبنى منحوت من جرف حجر رملي ممتد فوق نهر ديروينت، وقد أنشئ على شكل صالة ممتدة مقوسة، في وسطها العمل الفني الذي صممه نوندا، والذي يبلغ طوله أكثر من 40م، وهو عبارة عن تركيب فني يتألف من 1620 لوحة صغيرة من الزهور، والوجه والطيور والحيوانات، وقد أحب والش ذلك النصب التذكاري جداً إلى درجة أنه ركب أرضية زجاجية في شقته الخاصة فوق صالة العرض، حيث يعيش الفنان كيرشا كايتشيلي مع زوجته، وهكذا يستطيع أن يتمتع بهذا العمل الفني (الثعبان) في أي وقت.
متحف “مونا” ومجموعة والش بدأت بالمصادفة عام 1992 في جنوب أفريقيا في ناد صغير كان مرة كازينو، وقد مؤّل والش صديقه في لعبة بلاك جاك، وتجاوزت الأرباح الحدود المسموح بها للتصدير، وبناء على اقتراح والش تم وضع المبلغ الفائض لشراء باب محفور من خشب يوروبا من شمالي نيجيريا رآه خلال الرحلة، وسرعان ما أصبح هذا الحل العملي لمعضلة الجمارك هاجساً، وخلال العقد اللاحق لهذه الحادثة تم المزيد من عمليات شراء الأعمال الفنية، بما في ذلك العملة، وآثار مصرية، والفن الحداثي الأوسترالي من مثل أرثور بويد، بريت وايتلي، ونولاند، وأخيراً بدأ والش عام 2003 بجمع الفن المعاصر عندما اشترى عمل الفنانة الأمريكية سوزان روزينبرغ (رأس وذراع أصفر)/ 1996 – 1997.
وجهات نظر والش حول الفن المفاهيمي مثيرة للاختلاف. (أزعم - وقد جادلت في ذلك - أن الفن المفاهيمي ليس فناً حقيقياً)، هو يعتقد أنه أقرب إلى الفلسفة منه إلى الفن. يقول والش مازحاً: “متحف نوما هو في طريقه أن يتحول إلى متحف للفلسفة”. والش يفضل نهجا في الشراء مباشرة من استيديوهات الفنانين الذين يقدرهم، ولكنه يؤكد أنه يقوم بذلك “من دون استرتيجية”، وبدلاً عن ذلك يتبع ما تمليه اهتماماته ونزواته.
المجموعة التي تقدر قيمتها بما يقارب 100 مليون دولار أوسترالي تتألف اليوم من آلاف القطع، بما فيها كنز كبير من العملات القديمة، إلى جانب حوالي 700 عمل فني، وقد أخبرني والش أن لديه تفويضاً دائماً من الفنان الأمريكي جيمس توريل "إذ يقول والش إنه أعطاه الضوء الأخضر ليبدع أي شيئ.
واحدة من القطع المفضلة عند والش هي تركيب (كلوأكا بروفيشنال)/ 2010؛ للفنان البلجيكي المفاهيمي ويم ديلفويي، وهو عبارة عن آلة تعيد تصنيع البراز وتجلي محتوياته الضارة يومياً. (إن قطعة المرحاض هي الفن المثالي بالنسبة لي، مع تأثيرها واحتقانها لمخزون حسي فائض وجمالية مناسبة للقرن الـ21). ثم هناك عمل كريس أوفيلي(العذراء مريم المقدسة)/ 1996؛ الذي يستخدم فيه روث الفيل وصور مثيرة للجدل، وعمل (لوكوس فوكوس)/ 2004؛ للجامع الأوسترالي جيليتين الذي يستخدم مرايا موضوعة بذكاء بحيث تتيح للزوار أن يروا أنفسهم أثناء قضائهم حاجاتهم. يقول والش بخصوص هذا الموضوع: (أعترف أنها قد بدأت لتبدو كأنها إستراتيجية). وهو يعتقد أن هناك قيمة لطريقة العرض، والكثير مما يمكن كسبه من الصدمة.
ما قادنا إلى متحف “مونا” هو المعرض الأكثر طموحاً حتى الآن (نهر فاعدة أساس) الذي يعرض الفيلم السيمفوني أكثر من 5 ساعات، وهو للفنان الأمريكي ماثيو بارني، ومستوحى من عمل المؤلف الأمريكي نورمان ميلر العميق المعتمد على رواية مصرية صدرت عام 1983 (أماسي قديمة) حيث تعرض فيه مجموعة من وظائف الجسم كاملة، أي أنهار من البراز ملفوفة بورق الذهب، وتدفق سوائل الجسم، وتبول نساء بهلوانيات، على سبيل المثال لا الحصر، وبالتزامن مع عروض الفيلم عرض “مونا” أكثر من 50 عملاً فنياً، تخللها عرض قطع أثرية مصرية من مجموعة والش.، توابيت ومومياءات وخراطيش موضوعة إلى جانب قطع فنية لبارني ضخمة غالباً، مثل 5 أطنان من النحاس المصبوب والحديد المنحوت (Rouge Battery)/ 2014؛ التي دمجت الجزء السفلي لسيارة كرايسر إمبيريال من طراز 1967، بعد أن كانت مفتتة في عرض سابق، ويعتبرها والش (واحدة من أكثر الأشياء إقناعاً من الناحية الجمالية التي رأيتها في حياتي في العالم كله).
ما الذي يوجد في المجموعة يستطيع صاحبها أن يتخلى عنه ويعيش من دونه؟ يجيب والش على هذا السؤال: (أستطيع العيش من دون أي شيئ. لكن دعني أجب بهذه الطريقة: عندما تحدث أزمة سيولة نقدية؛ هناك بعض الأشياء التي لم أفكر أبداً ببيعها. ليس لأنها أفضل القطع الفنية، إنما لأنها تمثل الطريقة التي أرى فيها العالم أكثر من سواها)، ويعطينا والش مثالاً (هيروشيما في تاسمانيا: أرشيف المستقبل)/ 2011؛ وهي بقايا حجر تم دمجه في عمل فني لمساؤو أوكابي من وتشيهيرو ميناتو من موقع تفجير نووي موجود في مكتبة صالة العرض، ويمكن لـ14 فقط مشاهدتها في آن واحد، بلا عنوان (المكتبة البيضاء)/ 2004 – 2006؛ للفنان الكوبي ولفرسدو بريتو، وهي مكتبة كتب بيضاء فارغة تمثل لوالش (كلّ مفاهيمي أنيق بشكله، ونقي عاطفياً)، وبالطبع هناك عمل (كلوكا) للفنان ديلفويي.
في نهاية المطاف؛ متحف “مونا” هو عبارة عن شكل كبير لمجموعة غرائب موسوعية من عصر النهضة الأوروبي “وندركامر” أو “خزائن الغرائب”، (لم تكن عندي أي فكرة حين بدأت هذا المتحف)، يقول والش. وهذا ليس صحيحاً تماماً. ففي الموقع ذاته بنى سابقاً متحفاً تقليدياً يضم آثاراً، وفشل في جذب الزائرين. (كنت أحاول فهم لماذا يبدو متحفي الصغير للآثار يشبه غيره من المتاحف). في عام 2007 أغلقه وبدأ العمل على متحف “مونا”.
يقول والش: (من الإنصاف أن اقول إنني عندما جئت إلى الفن كنت أفتقر إلى الخبرة)، مضيفاً أن من المحتمل أنه بنى متحف مونا لـ (يغفر لذاته الشعور بالذنب لأنه كان يعمل على جمع المال من دون أن يترك علامة فارقة). لكن والش عوض عما افتقر إليه في الخبرة بعاطفته وفضوله وحظه. إنه يقارن جمع الأعمال الفنية برحلة استكشافية تتعرض لمسائل فوق سيطرة المرء. يقول والش: (نحن نطفو على بحر من الفرص، والبحر يأخذنا إلى مكان ما). ويضيف: (فكرة أننا نعرف أين تأخذنا الرحلة هي حقيقة فكرة حمقاء.. علمني الواقع أن الحظ عنصر حاسم في الرحلة).