في تموز 2014 توفي المخرج التجريبي هارون فاروقي عن عمر ناهز الـ70 عاماً؛ تاركا وراءه إرثاً من أعماله التي جربت العديد من الطرائق التي تستخدم الصور في وسائل الاتصال، وفي وقت سابق من العام ذاته قدم متحف هامبورغر بانهوف برلين معرضاً فردياً للفنان بعنوان (ألعاب جدية)، وفيه تم عرض أفلامه: (Interface)/ 1995، (نار لا يمكن إطفاؤها)/ 1969، و(ألعاب خطيرة )/ 2009 -2010، وقد قُدّم هذا المعرض بمناسبة اقتناء المتحف للأعمال الثلاثة، وسلط الضوء على استكشاف فاروقي للقضايا الاجتماعية، والتقنيات التي تستند عليها. في قاعة المعرض المؤقتة في المتحف نزل الزوار خلف ستارة سميكة ليدخلوا إلى غرفة مظلمة؛ حيث الإسقاطات على الشاشة الشفافة المتدلية من السقف توفر بيئة تأملية لمشاهدة عمل فاروقي.
فيلم (Interface) كان الأول في المعرض، وهو يدل على علاقة فاروقي الحميمة بالصور. في تقسيم شاشة الفيلم كان الفنان يجلس على مكتب أمام اثنين من مراقبي التلفزيون بين أكوام من أشرطة الفيديو، وهذه المواد غير المنظمة تحدد تاريخ اللقطات، لكنها تؤكد ماديتها أيضاً، وبنظرة أخرى إلى طريقة فاروقي الفريدة في معالجة الفيلم وإخراجه، والتي تنطوي على اللمس، فإن تقنية القطع واللصق التي تحتاج الكثير من العمل في مرحلة ما قبل تكنولوجيا الديجيتال التي كانت متاحة خلال أولى تجاربه في السينما.
يمكن للصور أن تتبنى معاني ودوافع خفية/ وأن تعزز أو تلفت الانتباه إلى ما هو كامن خلف الإطار، كما هو مبين في أحد المشاهد، حيث يرفع فاروقي يديه إلى إحدى شاشات التلفزيون، وكأنه مصوِّر يؤطر ما هو أمامه. بينما يحدث ذلك في قسم واحد من الشاشة المقسومة، حيث تظهر في لقطة شاشة كمبيوتر “مؤطرة” في القسم الآخر. أراد الفنان وضع تلك الصور ليتحدى الميديا التي تلتزم هياكل السرد التقليدية، وفي ذات الوقت أراد تسليط الضوء على عملية التأطير التي تستخدم غالباً في الأفلام. إن هذا العمل يدعو المشاهدين ليجدوا الصلة بين الصورتين، وليكتشفوا معانٍ جديدة في العمل.
عمل ثانٍ يستكتشف بشكل أعمق اهتمام فاروقي بالتجاور، وهو تركيب من فيلمه (ألعاب خطيرة)، وفيه فيديو بقناتين، وهو عمل يدرس كيفية استعمال ألعاب الفيديو في كل من تدريب وإعادة تأهيل الجنود في الولايات المتحدة.
أربعة جنود من المشاة البحرية الأمريكية يجلسون في مكتب في قاعدة عسكرية، لكنهم افتراضياً يقطعون صحراء جرداء، يطلقون النارعلى أعدائهم المسلحين، ويتجنبون الألغام الأرضية، وعلى الرغم من أن المناظر الطبيعية تستند على طوبولوجيا أراضي القتال الفعلي؛ لكن هناك شيء غريب حول أدائهم الرقمي الناعم والسلس، ولا يسع المرء إلا أن يشعر أن الجنود الأمريكيين سيكونون سيئي التسليح في خط المواجهة الواقعي. إن شكل القناة الثنائي يعزز الشعور بالانفصال في هذا العمل، حيث يتم عرض المتدربين على شاشة واحدة، في حين أن المشهد الواقعي الذي يسافرون عبره يظهر على الشاشة الأخرى.
في مقتطفات أخرى من (ألعاب خطيرة) رجل يرتدي نظارات عالية التقنية يقوم برحلة محاكاة أخرى، ويصف صداماته بصوت عال جداً بصيغة الزمن الماضي، ليتبن لاحقاً أن ذلك برنامج إعادة تأهيل ضحايا اضطرابات ما بعد الصدمة التي تعمل على مبدأ أن تذكُّر الأحداث المؤلمة يمكن أن يؤدي إلى الشفاء، إلا أن ذاك الرجل في الواقع ليس من ضحايا اضطرابات ما بعد الصدمة، لكنه ممثل يعمل في فيديو ترفيهي لمطور البرنامج، وفي كلا جزأي (ألعاب خطيرة) يشير فاروقي إلى أن الواقع والمحاكاة يتشابكان على نحو مضطرد، وأن وسائل الإعلام الرقمية تستطيع تقليد الواقع، بل إنها تستطيع خلق الواقع كذلك.
في ختام المعرض عُرض فيلم (نار لا يمكن إطفاؤها)، وفيه يؤكد فاروقي مرة أخرى قوة الصور، وقد تمت صناعة الفيلم في ذروة حرب فيتنام (1955-1975)، صراع وحشي استعملت فيه الأسلحة الكيمياوية حتى ضد المدنيين، وفي الفيلم يسأل فاروقي (كيف يمكن أن نظهر لك النابالم في العمل؟" قبل أن يضغط سيجارة مشتعلة على ذراعه، ويكشف عن أنها تشتعل في درجة حرارة 752 فهرنهايت، بينما النابالم يمكن أن يحرق في درجة حرارة تصل إلى 5432.
الأفلام الثلاثة للفنان الراحل بتنوعها في الموضوع، والفترة الزمنية التي تغطيها والشكل؛ إنما تدرس فكرة أنه في حين أن الصور (سواء كانت من التصوير الفوتوغرافي، أو الفيديو، أو وسائل الاتصال الرقمية يمكن أن تحاكي أشكال الواقع ومادته، إلا أن خصائصها الانفعالية تستمد قوتها مما هو خارج الإطار.