(الأشياء هي أفضل معلميك) هكذا كان هوبرت هاتفيلد إلسورث يحب أن يقول، لكن الصدق الآن أن أمريكا هي التاجر الأكبر للفن الآسيوي، فالعديد من الأمريكيين يتذكرون بوبي الذي كان معروفاً بين أصدقائه كأفضل معلم لنا، وهو جامع الأعمال الفنية، والذواقة، والرحالة العالمي، والأكاديمي، والمؤلف، والمانح السخي، والديبلوماسي الثقافي، وقد كان إلسورث القوة البارزة وراء نمو سوق الفن الآسيوي في الولايات المتحدة منذ أواسط الستينيات وحتى وفاته في الثالث من آب/ أغسطس عام 2014 في مدينة نيويورك. في حين اشتهر بشغفه بأحجار اليشم الكريمة الصينية القديمة، والمنحوتات البوذية الأولى، ورسومات الخط العربي، وأثاث خشب المينغ الصلب، وخزف تشينغ أحادية اللون، والرسم الصيني الحديث، وخط اليد. وكان مؤثراً على قدم المساواة في تحفيز مجالات الفن الهندي، وفن الهيمالايا وجنوب شرق آسيا، كما أحب اليابان أيضاً، ومن بين الأعمال الفنية الأولى التي تستقبل الزوار في شقته المؤلفة من 22 غرفة عام 1960 في الجادة الخامسة كانت رائعة عصر كاماكورا (1185/ 1333م)، وهي تمثال من الخشب للآلهة جيزو بوساتسو. كان تمثالا مناسباً لرجل كان صديقاً حميماً وحامياً لأنه يمثل الشهامة والنعمة.
موت إلسورث يعني نهاية عصر، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية فقدنا القلة الأخيرة من الشجعان الذين أسسوا عالم الفن الآسيوي في أمريكا ما بعد الحرب. شيمان لي (1918/2008) من متحف كليفلاند للفن، جون روزينفيلد (1924/2013) من جامعة هارفارد، جيمس كاهل (1926/2014) من جامعة كاليفورنيا وبيركلي، وقد ساهم كل منهم في توسيع مجموعات المتحف والمنح الدراسية وتقدير الجمهور “للفن الشرقي”؛ في وقت كانت فيه التقاليد الأوروبية تسيطر على دراسة تاريخ الفن. وهم وغيرهم شكلوا كادراً من القيمين والأكاديميين وجامعي الأعمال الفنية والتجار الذين يشتركون في محبة الفن والتاريخ والثقافة الآسيوية. وكي تكون واحداً منهم يعني أن تشعر أنك دخلت في عائلة كبيرة تكمل بالأشباح وغريبي الأطوار والأساطير، وكان هذا الجيل من القيمين الأكاديميين الخبراء في الفن الآسيوي عالمياً في اهتمامه، لكن لم يكن عقائدياً بالمعنى الضيق أبداً. إلسورث الذي تسرب من المدرسة الثانوية يرتدي ملابس مثل الإدواردي، ويشرب ويسكي البوربون في قدح كوين آن الفضي، وهو في مقدمة مجلداته الثلاثة (الرسم الصيني وخط اليد 1800/1950) التي نشرت عام 1987؛ يقارن إلسورث موضوعه بموسيقى ريتشارد شتراوس (الأوبرا الخاصة به والرسم الصيني تبدأ بموضوعات يمكن إدراك جمالها بسهولة بعد سماع كامل اللحن للحركة الأخيرة).
أول مرة سمعت عن إلسورث عندما كنت مراهقاً أعيش في آشيا في اليابان، كان والداي صديقين حميمين لديفيد كيد المستشرق الأمريكي من المدرسة القديمة الذي عاش في قصر دايميو الغني بالفن والتحف الصينية، وكان كيد يبيع أحياناً كنزاً أو كنزين. عاش في “بكين القديمة” من عام 1946 وحتى 1950، لكنه أجبر على المغادرة بسبب سياسات ماوتسي تونغ المعادية للأجانب، واستقر في اليابان وأصبح شهيراً بصالوناته، حيث رؤساء الدير التيبتي وأعضاء ميليشيا الروائي يوكيو ميشيما، وزوار لامعين – مثل بوكمينستر فولر – يمكن أن يأتوا كلهم لتناول الشاي، ويبقوا حتى الثالثة صباحاً، مستمتعين بمحادثات رائعة. كان منزل كيد أيضاً وجهة لزيارة تجار الفن الآسيوي، وكانت شارلوت هورستمان من هونغ كونغ الذي عرفها كيد عندما كان لديها دكان في فندق بكين؛ ضيفة باستمرار، وعلى الرغم من أنني لا أتذكر أبداً لقاء إلسورث هناك، فإن اسمه كان يذكر بتبجيل ونادراً ما كان كيد يعامل به أي شخص آخر. في عام 1971 أرسل كيد طالباً مغرماً بالفن من بيننا اسمه كييتا إيتو لمقابلة إلسورث في نيويورك. (جئت لأدرس الفن الأمريكي، لكن بوبي أعادني إلى جذوري).. قال لي إيتو مؤخراً. (كانت نظرته رائدة دائماً)، وقد أصبح إيتو مساعد بوبي، وعمل في آر إتش إلسورث المحدودة معظم الأعوام الأربعين الماضية.
عام 1982 انتقلت من اليابان لأستلم عملي الأول كمساعد قيّمٍ لراند كاستيلي المدير المؤسس لصالة مجتمع اليابان في نيويورك، وأذكر تقديم كاستيلي لإلسورث في أسبوعي الأول، حيث قال لي: (إذا كان هناك امبراطور لعالم الفن الآسيوي فإنه سيكون هو)، وأضاف: (تعلمك يبدأ هنا). كنت أرافق كاستيلي في زياراته المنتظمة إلى 960 في الجادة الخامسة، وأحاول دائماً مواكبة عاداتهم في التدخين والشرب. كنا نجتمع في المكتبة الإنكليزية للوحات حيث يعقد إلسورث اجتماعه المسائي. مديرو متاحف من أوروبا، قيمون من اليابان، أكاديميون صينيون شباب، أصدقاء ساحرون، جيران وزبائن مثل شارلون سي ويبر ودوغلاس ديلون؛ كانوا كلهم يأتون ويذهبون، ويتبادلون الأخبار ويتأملون القطع الفنية الرائعة التي اقتناها إلسورث مؤخراً، وأحياناً نذهب إلى المطبخ لنفتش عن تماثيل تشولا البرونزية أو المنحوتة من حجر سوي، حيث إلسورث وإيتو كانا بصدد عملية إعادة ترميمها، وهذا النوع من “التعليم” أصبح عادة دائمة.
بعد سنوات؛ وعندما خلفت كاستيلي مديرة صالة جمعية اليابان؛ اضطلع إلسورث برعايتي، وقد بدا الأمر كأنه ترقية من فرد في البلاط إلى وزير في البلاط، وقدم لي نصائح عن الإستراتيجية المؤسساتية والمعارض والقروض والتمويل، وجمعني بأناس يمكن أن يساعدوني في مهمتي، وأوصلني إلى مكانة ترضي الجميع.
في عام 2003؛ العديد من القيمين على الفن البوذي من المتاحف الوطنية في نورا باليابان وجيونجو وسيؤول في كوريا زاروا نيويورك من أجل معرض نظمته، كان عنوانه (انتقال الأشكال الإلهية: باكورة الفن البوذي من كوريا واليابان). ولدهشتهم عرض إلسورث مجموعة الكونت أوتاني كوزوئي للسوترا البوذية، ونصوص تاريخية من مراكز طريق الحرير القديمة الصينية، وودونغ هونغ، وتورفان (بيعت هذه المجموعة فيما بعد لمتحف شنغهاي). لقد كان إطراء إلسورث مثيراً مثل نقده القاسي، والمعايير الرفيعة التي ألزم بها إلسورث المتاحف ومدرائها أعطى مهنتها قيمة ونبلاً، وعلاوة على تعليمه لي عن الجمال، فقد طبع في ذاتي شعوراً عميقاً من الالتزام تجاه مشروعنا للفن الآسيوي في أمريكا.
على مر الأعوام كان يشاد بإلسورث في الصحافة على أنه امبرطور “المندرين الأمريكي”، و"ملك المينغ" الصيني. ولد في مانهاتن عام 1929 لوالده مغني الأوبرا لافيرم هاتفيلد إلسورث، وكانت أمه طبيبة أسنان، وكان السليل المباشر لأوليفر إلوورث الرئيس الثالث للمحكمة العليا في الولايات المتحدة، وهذا ما جعله مفارقة مغرية، أرسقراطي أمريكي من مرحلة الكساد.
بدأ بجمع التحف والتجارة بها وهو في المدرسة الثانوية، ووقع في حب الفن الصيني من خلال التطوع للإغاثة في الحرب الصينية في بداية الأربعينيات. ترك المدرسة الثانوية وذهب للعمل في محل للتحف يديره صديق العائلة، وكما كتب عام 1984 في مقالة في مجلة “الذواقة”: (يكون المرأ محظوظاً حين يعرف ما يريد في الحياة)، و(يمكنك التغلب على إضاعة الكثير من الوقت).
في أحد الأيام اشترى جرة صينية بثمانية دولارات من دكان الأغراض المستعملة، وقدّر أنها من القرن الـ17. أرسله مديره ليقابل أليس بوني (1901/1988) عميد تجار الفن الشرقي في نيويورك ليرى ما يمكن أن تقوله له عنها، وفي ذات المقالة في المجلة تتذكر بوني: (هذا الشاب الصغير جاء ليراني ومعه جرة. لم تكن قطعة مهمة، لكنها كانت من عصر إمبراطورية مينغ الصينية (ازدهرت بين عامي 1368 و1644). تأثرت للغاية. ومنذ ذلك الوقت – بالطبع – لم أستطع الابتعاد عنه).
أقام إلسورث 40 عاماً من الصداقة مع بوني، وهي واحدة من أعظم قصص الحب في القرن الـ20. (كانت أمه وناصحته المخلصة ومعلمته).. هذا ما أخبرتني به ماساهيرو هاشيغوتشي رفيقة حياة إلسورث. (كانت مستقيمة جداً، ولا تحب أي هراء).. أخذت بوني إلسورث معها في رحلاتها إلى اليابان وكمبوديا وتايلاند والهند (تحدت كهوف باميان على مسؤوليتها في أحد الشتاءات، مرتجفة في معطف ديور، وهي تحاول خطف طريقها خفية إلى مواضع الفن في قندهار، وقد نجحت في ذلك). زارا مواقع المعابد والآثار القديمة والمتاحف المحلية وكل تاجر في هذا الاختصاص. كتبت بوني مرة في مقال لها في عدد مجلة أروينتيشن عام 1988: (النظرة الفنية يمكن رعايتها، لكن لا يمكن تعلمها.. إنها هدية من الآلهة)، وقد رأت تلك الموهبة في إلسورث، ورعته مثل طالبها النابغة، وفي النهاية – وبشكل منقطع النظير – عرّفت إلسورث بآلان بريست قيّم فن الشرق الأقصى في متحف ميتروبوليتان للفن بين عامي 1928 و1963، وهو أيضاً رأى موهبة الشاب، وخطط لإدخاله مجال المتاحف، لكن من دون جدوى. إلا أنه نجح بتأمين فرصة له كي يلتحق بجامعة ييل عام 1949 ليدرس الصينية على يد الأستاذ البارز وانغ فانغ يو، غير أن إلسورث لم يجتز الامتحانات، وبدل ذلك سحر المختصين بثقافة شنغهاي وأقنعهم أن يقوموا ببحوث عن الموضوعات التي كان يهواها ويريدها، وأصبح وانغ وإلسورث صديقا عمر، وابنه شاوفانغ أحد أبناء إلسورث الـ17 بالعمادة، وقد أعطى وانغ فانغ يو إلسورث اسمه الصيني آن سيوان، ومعناه (الذي يذهب تفكيره بعيداً).
العديد من الاختصاصات في اقتناء التحف والتجارة بها – والتي تميز بها سجل إيسورث – كانت بداياتها مع بوني، ويشمل ذلك نحت القبر الصيني، ومفروشات مينغ، والفن الصيني الحديث، وقد ثقفت بوني ذاتها، وبرزت كتاجرة للفن الآسيوي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وقد شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين ظهور قيمين أكاديميين مثل آلان بريست في متحف ميتروبوليتان، وجون إي بوب في صالة فرير للفن في واشنطن العاصمة، ولورانس سيكمان في متحف نيلسون أتكينز للفن في كانساس، ولانغدون ويمر، وماكس لوهر من جماعة هارفارد اللذان عملا على نهوض الفن الصيني في أمريكا. وفي مقالتها في مجلة أورينتيشن التي ذكرتها هنا علقت بوني بأن ذلك (كان صعباً للغاية في تلك الفترة، لأنه كان هناك تجاهل تام للفن الصيني). أخذ إلسورث القضية على عاتقه، وتعبيراً منه عن الوفاء؛ أهدى كتابه الأول (الثقافة الصينية: نماذج من الخشب الصلب، مينغ وسلالة تشينغ القديمة)/ 1971؛ لبوني، ويعتبر هذا الكتاب مرجعاً في الفن الصيني، وفيه عدة أعمال من مجموعته الخاصة، البعض منها أصلها بوني.
كانت علاقة إلسورث ببوني شخصية أيضاً، وفي إحدى الرحلات إلى طوكيو؛ حيث عاشت بوني 16 سنة، التقى إلسورث شاباً في الوفد المرافق لها، يدعى ماساهيرو هاشيغوتشي، والكل يسميه ماسا الذي انتقل ماسا إلى نيويورك في سن الـ19، وبقي مع بوبي حتى النهاية، وقد قال لي مؤخراً: (بوبي علمني الحياة). في عام 1980 افتتح إلسورث وهاشيغوتشي مطعماً فخماً أصبح أسطورة في تلك الفترة من حياة مجتمع نيويورك، وكان اسمه “جيبون” على اسم لوحة فنان الرينبا ساكاي هوئتسو (1761/ 1828)؛ والتي كانت معلقة في بار الطابق السفلي. كما لو أن مبنى الجادة الخامسة الجميل لم يكن خلفية كافية لأسلوب إلسورث الراقي. تواصل إلسورث في مطعم “جيبون” مع شغفه لبريق هوليوود الكلاسيكية، وكانت صديقته العظيمة الممثلة كلوديت كولبرت زبوناً دائماً في المطعم، وجاء فرانك سيناترا أيضاً وقدم أغانيه، وجون جيتي الذي يعتبره الجميع “الدون المتأنق” لرجال العصابات؛ كان يحب زيارة المطعم من حين إلى آخر قبل أن يُحكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 1992.
أتذكر استضافة إلسورث للعشاء بمناسبة افتتاح معارض صالة مجتمع اليابان هناك، بعض تلك المعارض استمرت فترة طويلة في المطعم، لدرجة أنّ بعض الضيوف لم يشعروا بضرورة الذهاب إلى المتحف.
كتاجر تحف الفن؛ كان إلسورث يفضّل اقتناء الأعمال الفنية على بيعها، وعلى مر عقود بات عنده قلة من الزبائن الذين ينصحهم باستمرار في الاختيار وتوجيه استثماراتهم نحو المتاحف بصورة أساسية. وفي عام 1961 اشترى جون دي روكفيلر أول قطعة من إلسورث، وبعد وفاة روكفيلر عام 1978 تم إهداء مجموعته التي تقارب 300 تحفة لمجتمع آسيا، ومؤسسته التي أسسها وزوجه لدعم توسع أمريكا في فهم آسيا، ويتفق الأكاديميون على أن قيمة المجموعة تأتي بشكل أساسي من قطع سيراميك عصر مينغ الصيني، والنحت البوذي والهندوسي الهندي والتيبيتي والخميري والإندونيسي الجاوي، وهي كلها إلى حد ما كانت بالأصل في تشجيع وتوجيهات إلسورث الذي ساعد إلسورث أيضاً في بناء مجموعة جوزيف هوتونغ الموجودة في جناح الفن الصيني في المتحف البريطاني، ومجموعة شارلوت سي، وجون سيز ويبر المكونة من حجر اليشب القديم والسراميك والقطع المعدنية، والآن هي نواة فنون الصالة الصينية في ميتروبوليتان.
عام 2014 كُتبت مقالة في ذكراه ونشرت في الفن الآسيوي؛ وفيها يسرد براتاباديتيا علاقات إلسورث مع مجموعة (بان إيجان) الشهيرة التي بنيت على مدى ربع قرن من قبل الخبير المالي، والعضو في الأسرة المصرفية “لازاردفرير” كريستيان هومان. وتضم مجموعة “بان إيجان” حوالي 1600 تحفة ولوحة، وتركز على الموضوعات الهندوسية والبوذية. عام 1977 نظم بال الذي عمل مدة طويلة قيّماً للفن الهندي والجنوب شرق آسيوي بمتحف الفنون في لوس أنجلوس؛ معرضاً يقدم أبرز أعمال مجموعة هيومان وهي (الحسيون الخالدون)، وفي تكريمه له يصف بال المعرض بأنه (ربما يكون الأكثر أهمية للفن الهندي والهيمالاوي والجنوب شرق آسيوي على الإطلاق من جميع المعارض التي نظمت في العالم حتى تاريخه)، وبعد موت هيومان في غير أوانه عام 1981 اشترى إلسورث المجموعة الكاملة بـ12 مليون دولار أمريكي.
اتبع إلسورث في وقت لاحق خطة دقيقة بخصوص مجموعة (بان إيجان)، حيث باع بداية العديد من أجمل أعمالها لميتروبوليتان ومتحف كليفلاند ومتحف فيلادالفيا للفن ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن وغيرها. عندئذ قدم عام 1990 مزاداً مهماً في نيويورك لنحو 200 عمل فني، وحين سئل عن سبب بيعها؛ أجاب إلسورث بمقالة في نيويورك تايمز عام 1990: (علي دفع الإيجار، وأنا قررت أن الاستثمار وصل إلى حد جيّد. أعتقد أنني أستطيع بيع 188 قطعة لأحصل على المال كي أستثمره في 8 قطع)، وفي النهاية احتفظ لذاته بصفوة المواد الأفضل، وهي بعض ما ظهر من مجموعة إلسورث في مزاد كريستيز في نيويورك في آذار/ مارس 2015، حيث تعتبرها دار المزاد (المجموعة الخاصة الأضخم للفن الآسيوي التي ظهرت في تاريخ المزاد على الإطلاق)، ووفق بيان صحافي صدر عن البيع القادم (إلسورث وضع في غرفة نومه واحدة من أحب قطعه على قلبه، وهي من مجموعة “بان إيجان”)، قطعة (مهاسدا التيبت) التي كان كل صباح يحييها بحنان كما لو أن البرونز كان صديقاً.
من بين كل المجموعات التي طورها إلسورث؛ كان أكثر ولعاً بالرسم الحديث بالحبر الصيني، والخط العربي المكتوب يدوياً، وكان عمله في هذا المجال أعظم إسهاماته العلمية التي أدت إلى إعادة تقييم فترة فنية كاملة، ومرة أخرى كانت أليس بوني ملهمته (كنت قد تعرفت على الرسم الصيني الحديث من قبل أليس بوني عام 1949)، هذا ما كتب إلسورث في كتابه (الرسم الصيني وخط اليد 1800/ 1950، وهي كتاجرة ومقتنية كانت رائدة في هذا المجال في الغرب، والكثير من أجمل ما أملكه جاء منها). اشترت بوني أول لوحة بالحبر لـ تشي بايشي (1864/ 1957) أواسط أربعينيات القرن الماضي، وجمعت نهاية المطاف 100 عمل من أعماله، فأصبحت مجموعتها هي الأساس لالتزام إلسورث بتأسيس قسم الفن الصيني الحديث وخط اليد كموضوع يستحقّ الدراسة والتذوق والاقتناء في الغرب، وتلك كانت مهمة صعبة آنذاك. شيمان لي زار إلسورث في الثمانينيات وسأله (أما زلت تجمع أوراق التوليت تلك، بوبي؟) إن إهتمام إلسورث في هذا المجال كان بعيد النظر مالياً، ورؤيوياً فكرياً، كتاجر كان لديه بعد نظر، وكان شعاره (اشترِ، وانتظر 30 عاماً، ثم بع، ربما عليك دفع ثمن أخطائي). سمعت مرة إلسورث يقول لزبون (لكن ليس عليك أبداً أن تعيش معها). قناعة بصيرة إلسورث حول قيمة الخط الصيني المهملة منذ فترة طويلة، ورسم المرحلة الحديثة؛ كانت مستوحاة جزئياً من تدريبه الخاص كشاب رسام، ومن تقديره الغريزي للفن التجريدي الحديث، فقد اختار الفنانين على أساس قدراتهم الشخصية على التعبير وعلى استمرارهم الإبداعي “رغم الاضطراب المريع في محيطهم”، ففي مقدمة كتابه (الرسم الصيني وخط اليد 1800/ 1950) – وهي مقدمة رائعة وغنية ومدروسة بشكل دقيق – تلخص ملاحظاته عن عدة مئات من الأعمال، يناقش فيها إلسورث كيف أن القرن الـ19 كان مفتاحاً لما جاء قبله، وما جاء بعد لقاء الصين مع الحداثة.
إن الادعاء بأن القرن الـ19 هو عصر إطلال العبقرية هو ادعاء مفرط، والادعاء بأنه أنتج أعمالاً ضعيفة فقط هو إدعاء عفا عليه الزمن. تلك الفترة غنية برسوم الأشخاص والحيوانات والزهور، وعلى أساسها ازدهر الفن في القرن الـ20.. (إذا كنت بعد رؤية تلك اللوحات وأعمال خط اليد لم تقتنع بأهميتها وجمالها، عندئذ سأكون قد فشلت في إمكانية تغيير رأيك. قناعتي، على أي حال، تدفعني على الاعتقاد أن هؤلاء الذين سيتبنون هذه النظرة سيصبحون الأكثرية).
إلى جانب أعمال كي باشي؛ جمع إلسورث أعمال نجوم الحداثة التي تشمل فو باؤوشي، لين فينغميان، ليو هايسو، بان تيانشو، شو بيهونغ، تشانغ داتشيان. حالما سُمح للأمريكيين بالسفر إلى جمهورية الصين الشعبية ذهب إلسورث وكيتا إيتو للبحث عن الكنز، وفتشا من خلال الفن الذي تديره الدولة ودكاكين الحرف في شنغهاي وتيانجين وغيرهما من المدن، وكان بين رفاقهم صديق قديم لإلسورث، هو هانغ لو، تاجر من هونغ كونغ وابنه آندي هيي الذي كانوا يلقبونه “بينغ كواي” أي ثلج بالصينية، لأنه كان يحضر الثلج لمشروب إلسورث من البوربون. وعلى مدى الأعوام التالية زار إلسورث وإيتو وهيي الصين معاً بشكل متكرر. كان إلسورث يبحث بصورة خاصة عن أعمال شي لو (1919/1982)، الرسام المنعزل والشاعر والخطاط الذي أدى به رفضه إعادة رسم لوحات المناظر الطبيعية ليضيف إليها تصويراً لماو؛ لأن يُضطهد على أيدي الحرس الأحمر أثناء الثورة الثقافية (1966/ 1976)، فرمي في السجن، وحرم من الحصول على أدواته مدة 3 أعوام، ثم أصيب بالجنون. بحث إلسورث عن لوحات شي لو الخاصة بالمناظر الطبيعية السوداء والخط "الوحشي"، لكنه وجد القليل. وفي عام 1980؛ ورغم أنهم كانوا على وشك مغادرة شيان وهم فارغو الأيدي، إلا أنه هيي هونغ لوْ مضى راكضاً إلى الفندق، ووجد عشيقة شي لو… ووجد إلسورث كنزه النفيس من أعمال شي لو.
إن تذوق إلسورث الحاد الذكاء يكشف نفاذ بصيرة لا يمكن لمعظم مؤرخي الفن التقليدي أن يتجرأوا على مثلها أبداً. وفي كتابه (الرسم الصيني وخط اليد 1800/ 1950) كتب عن لوحة شي لوْ للمنظر الطبيعي (صنوبرات جليلات على جبل)/ 1972؛ (مهما كانت وجهة اندفاعه؛ إن غطّ الفرشاة في الحبر وحين يسحبها، في الرسم أو الخط؛ فإن رسالته كانت صريحة. جبل هوا مع صنوبراته الجليلات جذبته وأكدت له اعتقاده بأن الفرد يمكن أن يبقى على قيد الحياة، حتى على شفير مثل هذه الهاوية).
أخذ إلسورث وقتاً والكثير من المحاولات ليقنع أصدقاءة الحميمين في ميتروبوليتان ليقبلوا إهداءه 500 لوحة وخط يد تمتد من القرن الـ19 إلى أواسط القرن الـ20، وآنذاك لم يكن هناك أي بيبلوغرافيا عالمية أو خطاب أو سوق لهذا النوع الفني، وقد اعتبر خبراء الفن الصيني الأساليب التجريبية للأعمال القنية في مجموعة إلسورث تنافراً وتشويشاً، أو ببساطةٍ هي خارج حدود المقبول وقتها. وسواء في الرسم بالحبر على المعدن أو الورق، أو الحرير في الأشكال التقليدية؛ فإن الأعمال في مجموعة إلسورث تعكس التأثيرات المختلطة “الهجينة” من التعبيرية إلى الواقعية الاجتماعية، ومن الطبع التقليدي على القوالب الخشبية إلى التجريد الحداثي، وبفضل مدير ميتروبوليتان فيليب دي مونتيبيلو، وفضول وين فونغ الفكري الذي لا يمكن كبحه، وهو المسؤول عن قسم الفن الآسيوي لزمن طويل، صادق على تلك الهدية التاريخية، مع وعد بإشعار دائم باستلامها في الصالات، ومع الوقت أطلق ميتروبوليتان معرضه عام 1991 (بين ثقافتين: لوحات صينية من مجموعة روبرت إتش. إلسورث بين أواخر القرن الـ19 والـ20؛ في متحف ميتروبوليتان للفنون)، وقد لقي نجاحاً شعبياً. حيث نظم المعرض ماكسويل كي هيرن الذي عمل زمناً طويلاً أميناً للفن الصيني في ميتروبوليتان، وعمل مع فونغ على توسيع صالات العرض الآسيوية لتبرز في المتحف وفي العالم. (الآن بدأت كتابة تاريخ هذا الفن)؛ كتب الناقد الفني هولاند كوتر في 2001 في نيورك تايمز، (بينما يقدم ميتروبوليتان نوعاً هادئاً من الثورة). وفي نيسان ذلك العام بيعت لوحة لـ شي لوْ في دار سوذبي للمزادات بسعر قياسي يقارب 75,000 دولار أمريكي.
لم يقتصر سخاء إلسورث على المتاحف الأمريكية، إذ كان جهده الخيري الرئيس مؤسسة تراث فنون الصين، وقد تأسست هذه المنظمة في هونغ كونغ، وأمّن تبرعات تلقّاها من الأصدقاء حول العالم لاستعادة قرية مينغ في هويتشو، وأنهوي، وعُرف بسبب هذه التحفة المعمارية لأربعة عقود قبل زيارته إلى هناك عام 1991، ورغم الهياكل المعمارية التي نجت من الدمار الذي أصاب التراث الصيني المعماري خلال الفترة الحديثة الصاخبة؛ فإن ترميمهم على نحو لائق كان مهمة شاقة، وفي التقدير أعطى سكان هويتشو إلسورث لقب مواطن شرف، أو كما كان معروفا سييوان. (أنا أشعر أنني صيني).. قال إلسورث لمجلة كونويسيور عام 1984. (إنني معجب بموقف الشرق تجاه الحياة وأشعر بالتعاطف معه: هم يؤمنون بأن الحياة ليست سهلة، وأن على المرء أن يتأقلم ويحاول أن يعيش بالموجود).
وفاة روبرت إلسورث خسارة صعبة. فقد كان صديقاً ومعلماً لعب دوراً حيوياً في مجالنا الساحر، وربما يمكننا تلقي العزاء من واحدة من قصائد شي لو عن صنوبرات جليلات على جبل هوا؛ واحدة من اللوحات المفضلة عند بوبي:
أحب الصنوبرات على جبل هوا
طويلات، نبيلات، رصينات، كريمات
جذوعهن العالية تتنافس مع الشمس والقمر
مقاومات البرد على مدى السنين
هن يهززن أيديهن لعنان السماء
ويرفعن رؤوسهن عالياً مثل مشي التنانين الزرقاء
داعمات الغيوم إلى الأبد
دون أن يأخذن رحلة إلى السماء.