في يوم آذاري مشرق، تضرب شمس بعد ظهره واجهات سطوح “Cattle Depot Artist Village” القرميدية الحمراء في هونغ كونغ، والمبنى الذي كان مسلخاً في السابق، يبعد مسافة 30 دقيقة عن مركز المدينة. بني قبل الحرب العالمية الأولى، وتم ترميمه عام 2001. والمجمع المؤلف من 5 أبنية أصبح مقراً لـ20 مرسماً مستأجراً على مساحة 15000 متر مربع، وباستثناء الأصوات الخافتة لسيارات التاكسي العابرة خارج بوابة المجمع؛ فإن الهدوء يخيم على الساحة المفتوحة وسط الأبنية المتماثلة، وحتى الأبواب مدهونة باللون ذاته. لكن باستعراض المكان ليس صعباً تحديد مرسم “Frog King”.
كمية كبيرة من الورق ملصقة على الجدران القرميدية ترفرف في الهواء، ومواد مسنودة على طول البناء؛ وأوراق مجموعة من النباتات المتعرشة المتجمعة حول الباب تغطي الجدران. أجزاء بيانو بما فيها لوحة المفاتيح مكدسة تحت نافذة مغبرة مقابل أكوام من القماش. تمثال مبني من أجزاء معدنية ينتصب على قاعدة خشبية يدعو المارة لرؤيته، وهناك أيضاً رمز يدل على أنه مرسم “Frog King”، وهو لوحة خشب مقشرة تصور الخطوط العريضة لضفدعة معلقة فوق الباب المفتوح.
في الداخل الفنان المفاهيمي والأدائي ابن الـ68 عاماً كووك مانغ – هُوْ المعروف باسم “Frog King” يزين عمله التركيبي (حياة جسد)/ 2004؛ الغريب، بزي غني بالألوان وهو بحد ذاته بمثابة وليمة للعيون. طبقة فوق طبقة من عدة مشارب، أنماط، خطوط، كرات (مصنوعة من شرائط قماشية أو بلاستيكية)، خرز ومجوهرات لماعة، نظارات شمسية بلاستيكية مثبتة مع عدد كبير من المواد الزخرفية التي صممها كووك من أجل مشروعه “Froggy Glasses Project”. هذا المشروع التفاعلي هو جزء من سلسلة مستمرة بدأت في نيويورك في الثمانينيات، وفيه يدعو الفنان المشاركين لأخذ وضعية للتصوير وهم يلبسون النظارات المبهرجة. هذه النظارات التي أصبحت أسطورية الآن هي سمة مميزة لتجربة كووك، وغالباً هي جزء من عمله الأدائي (Frog’s Nest)/ 2011؛ وهو عبارة عن موقع مصمم خصيصاً لتركيب وسائل الإعلام المختلطة الذي عرض أصلاً عام 2011 في بينالي البندقية، وتم تطويره منذ ذلك الحين.
بدأت مع كووك جولة في مرسمه المؤلف من 3 أمكنة مكتظة، فالفنان المولود في غوانغدونغ استأجر أحد الأمكنة منذ 15 عاماً، ومنذ 6 شهور استأجر غرفة إضافية للمواد الزائدة التي يستعملها في أعماله التركيبية بالإضافة إلى الأشياء الجديرة بالاقتناء، والتي اكتسبها خلال 40 عاماً من تجربته الطويلة. وقد أحصيت الأعمال الإبداعية التي أنجزها كووك فكانت 5000 عمل فني منذ عام 1967.
قبل “Cattle Depot” كان هذا الفنان المتجول قد عمل في أكثر من 20 مرسماً مختلفاً في 4 مدن مع زوجته تشو هيون جاي الفنانة والمصممة. يقول كووك ضاحكاً: (نحن مثل الغجر المعاصرين!). تعمل تشو هذه الأيام في البيت تاركة المكان كاملاً لكووك. أخذني كووك إلى الأسفل في ممرات ضيقة بين السقف العالي وركام المواد الشخصية الخام، ويضيف: (أنا أفضل أن أمد جذوري في مكان واحد).
لقد نشر جذوره. ونحن نتلمس طريقنا عبر مؤونة من المواد الخام والنجاتيف؛ تحدث كووك بحنين عن حياته وسيرة عمله. يعتبره البعض فنان الأداء الأول في الصين بدءاً من (مشروع حقيبة بلاستيك)/ 1979، وهو يصف بداياته في أعمال الخط المحروقة مثل (Fire painting, Forward)/ 1977، و(Fire painting, Butterfly) /1978؛ على ورق طائرة ورقية اشتراها بسعر رخيص من سوق هونغ كونغ. هو يتذكر مرحلته في نيويورك (1980/1995) ويسميها (العصر الذهبي للكتابة على الجدران تحت الأرض في شرق القرية)، تلك الفترة التي نظم فيها وشارك وقاد العروض والمعارض. إنه يتذكر رسم الضفدع في شوارع مركز المدينة المغطاة بالثلوج، وإدارته صالة عرض “Kwok” مدة عامين؛ حيث التقى آي وي وي، ومارتين وونغ، وقد روى لي عن انتقاله إلى شانغهاي عدة شهور عام 2012 ، وأنه اكتسب طاقة جديدة، وتوافر له مرسم فسيح مكّنه من تنفيذ لوحات ضخمة على لفافات كبيرة من ورق الرز، من بينها (Frog Fun Action C)/ 2012؛ و (Frog Fun Action D)/ 2012؛ وقد رأيت بعض المنحوتات الخشبية والأعمدة التي عرضت العام الماضي في معرضه الفردي لأعماله في (Totem) الذي أقامته هونغ كونغ 10 Chancery Lane Gallery. معاً تنقلّنا حول أحواض السمك الاستوائي التي جلبها كووك من ذات الأكشاك في سوق السمك الذهبي في كوالونس مونغ كوك مذ كان طفلاً. رفوف السقف العالي مكتظة بمجلدات القصاصات والصور المأخوذة من المناسبات التي مر بها على مر السنين، وقد احتفظ بها كلها.
وصلنا إلى مكان مفتوح حيث يجرب كووك حبر رسمه. كان قد تدرب على يد أستاذ فن الحبر الحديث في هونغ كونغ لوي شاو – كوان، وفي معهد غرانثام للتعليم “معهد التعليم الآن”. كووك فنان موهوب يستخدم الحبر في مجموعة من وسائل الإعلام بما فيه الكولاج، وفن التركيب في مواقع محددة، والكتابة على الجدران، والأداء، والتصوير، والتجميع. نظف كووك الطاولة، ونشر ورقة كبيرة من أوراق الرز كان قد التقطها من لفافة في تلك الفوضى، بسلاسة وحزم وبلا تردد بدأ يرسم أشكالاً مجردة، ونصاً يتحرك صعوداً. يقول كووك: (تتحرك فرشاتي تلقائياً، وأنا أترك لها الحرية). لمساته الأخيرة كانت عبارة ميمونة من أجل السعادة في السنة القمرية الجديدة.
بعدها شرب كووك من دلو ماء، أخذ جرعة كبيرة، حبس الماء في فمه لحظات قصيرة قبل أن يرشها على الكانفس. القطعة غبشة ومجعدة، وهذا نهج طوره خلال سنوات إقامته في نيويورك.
أخيراً الختم. كانت مجموعة كووك من الأختام مبعثرة على الطاولة، حيث تجد أشكالاً مطاطية، وأختاماً حجرية تقليدية، ونسخاً حديثة اختارها من الصين وكوريا ونيويورك، يغطها بالحبر الأحمر ليظهر التضاد بين الأسود والأبيض للحبر والورق.
معظم أعمال الخط الحالية لكووك هي بقلم الحبر. وهو كبومة الليل “آلة لا تتوقف عن العمل”. يكتب على دفاتر مسطّرة للأطفال، ويستمر في العمل إلى وقت متأخر في الليل، تداعيات حرة، وآلاف من خطوط الكلمات، وعبارات باللغة الصينية واليابانية والكورية والإنكليزية. يقول كووك عن تدفق الأفكار المتواصل في ذهنه: (أعطني جملة واحدة أبني عليها العمل بأكمله).
بالإضافة إلى إبداعاته الغزيرة بالحبر؛ يوثق كووك كل جزء من يومه بكاميرا رقمية يحتفظ بها في جيبه حين يرتدي ملابسه، حين يأكل أو يصنع فناً، مناظر الشوارع وزيارته للمطبعة، حتى حين يشاهد التليفزيون يؤرخ ذلك. والجيوب الكثيرة لسترته ممتلئة بذواكر فيها آلاف الصور الرقمية. هي أيضاً امتداد آخر لعمله المكرس لكسر الحواجز بين الفن والحياة.
كوك يسمي هذا “لعباً” أو “صناعة الفوضى”، ويقول إنه لا يزال طفلاً من داخله، لكن هناك هدوءاً وراء ذلك المظهر المرح، فتحت لباسه الزاهي وحماسه كووك يهرم، فقد قارب السبعين من عمره، وهو يعاني ألماً في مفاصله، طاقته الجسدية تتضاءل، فحياته لم تكن دائماً سهلة. أخبرني بذلك قائلاً: (عمري 68 عاماً، وقد مررت بصعوبات كثيرة). في سنواته الأولى في نيويورك كان دخله تافهاً من بيع رسومات الخط في شوارع سوهو، وعندما كان ماله ينفذ كان يجول الشوارع ويمر من أمام الدكاكين بحثاً عن الطعام، لكن ذلك لم يثن عزمه عن متابعته فنه. قال لي: (مهما كانت الصعاب التي تواجهها؛ عليك أن تتحداها، وأن تستمر بما عليك أن تفعله).
عندما قاربت زيارتنا على نهايتها؛ كان هناك صندوق شعر مستعار، و"froggies" يحتفظ كووك بها قرب الباب ليستقبل الزوار ويمازحهم بارتدائها. “Cattle Depot” ليست مفتوحة للجمهور، لكن الناس كانوا يتدفقون طوال النهار. كووك يترك الباب مفتوحاً معظم الوقت، ولأن الفنان أهدى الكثير من الأعمال خلال السنين؛ فقد تدخل مستشاروه لحماية أمواله، إذ أن معظم الزوار يغادرون مع هدية من “Frog King”.
ونحن خارج المرسم تحت شمس بعد الظهر المتأخر؛ وقع نظر “Frog King” على قطعة خيزران كبيرة وراية من النسيج مركونة على الجدار الخارجي لمرسمه؛ فراح يفك تشابك الخيط والقماش محاولاً أن يقدمه هدية، نادى شابة كانت تمر في الجوار كي تساعده؛ وعلى الفور كانت هي أيضاً مندمجة ومتأنقة بنظارات "froggy"، بعد وقت قصير أخرجا الراية ولوحا بفخر و"Frog King" يصرخ بصوت عالٍ: (أكشن! أكشن)
جأر كووك بصوت عالٍ: (هنا المتعة الحقيقية). إنها خاتمة ملائمة لزيارتي للفنان غير التقليدي، صاحب الأعمال المتصاعدةة، الفنان البري الرائع مبدع “froggy”.. كووك مانغ هو.