أنا داعية للفلسفة التي ترى أن التعليم ليس عملية تلقين الحقائق، إنما هو عملية تنمية طرق التفكير. وعلى ضوء هذه الفكرة أنظر إلى الطريقة التي نفكر بها حول التعليم في المملكة العربية السعودية، وكيف تُملى وتؤثر على المجتمع.
يخطئ الناس بالنظر من الخارج على أن ديننا مدرسة واحدة، أو حركة واحدة، بينما هو حقيقة متنوع ومتطور. فما بدأ واحداً أصبح معقداً جداً الآن: السلفية والحركة الوهابية القائمة على التوحيد “مفهوم التوحيد” التي أسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1792). الدولة والإسلام تضررا من الجماعات الرئيسة والفرعية، وحتى إن كنت على مقربة من هذا الموضوع؛ فمن الصعب أن تتبعه. الأمر الرئيس الذي يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن هذه الاتجاهات تأسست على تأويل بشري للقرآن الكريم. هناك إمكانات لا حصر لها لتأويله، وكل تأويل معرّض للتناقضات والذاتيات، لأننا كبشر نُدخِل خبراتنا الخاصة في قراءة النص.
هناك أيضاً الكثير من إمكانية الانحراف عن الأصول ضمن هذه البنية المعقدة، مما يؤدي حتماً إلى الاستياء والعداء بين الجماعات والطوائف، والتي بدورها تولّد الاضطرابات وتشوه الهويات، وفي هذه البيئة – أنا ومن يعاصرني – ننتج أعمالنا.
في السعودية يتم تدريب عقولنا من سن مبكرة جداً على كيفية تفكيرنا دينياً، وهذا التفكير الديني يهيمن على مجتمعنا، وكذلك على مناهجنا، كما ينطوي غالباً على نبذ المعرفة الثقافية. في الحقيقة توجد مساحة صغيرة للحديث عن تعليم الفن في السعودية باعتبارها معدومة تقريباً. لماذا هذا هو الحال؟ وكيف يمكن للمرء أن يتصور إمكانية إدخال نهج آخر؟ تلك مسائل مثيرة للاهتمام، ولأخذها بعين الاعتبار.
أحد الجوانب الرئيسة في نظام التعليم في السعودية هو المعسكر الصيفي الديني الذي هو جزء مهم مما ينظر إليه على أنه “تجربة تعليمية مصقولة”، وهذه المعسكرات مقسمة إلى مجموعات، وكل مجموعة لها قائد، وهم جميعاً يبدأون عادة بنشاطات فريق للتسلية، مثل الرياضة، والقصد من الألعاب الترفيه عن الشباب ضمن بيئة آمنة وممتعة. لا يوجد الكثير من الطعام، تبحث عنه وتأكل طعاماً بسيطاً وتعيش مع الطبيعة.
بعد الصلاة، وعندما يحل الظلام؛ يبدأ الشيخ القائد برواية قصص قديمة، والقصص تكون عادة عن الجهادية، وعن الحالة الراهنة في العالم الإسلامي، وهي تشجع مجتمع الصغار على الشعور بالقوة، وهناك غناء بسيط من دون مرافقة موسيقية، ومن وقت إلى آخر يكسرون الأدوات الموسيقية أمام بعضهم كشكل من أشكال رفض الموسيقى، لأنه يُنظر إلى الاستماع للموسيقى على أنه سرقة للوقت الذي يجب تكريسه للصلاة.
الغناء والدردشة يجلبان النعاس، ويدخلانك فيه، ويجعلانك تؤمن بأشياء ليست موجودة في الواقع، مثلما تفعل المخدرات أو المشروبات الكحولية، وتذهب عالياً كما لو أنها تنقر في أعماق خيالك، والمغنون الذين يقودون الغناء يضعون فلتراً على الميكرفون بقصد جعل الصوت أكثر “إلهية” أو تقوى. عندما شببت كنت أُرسل غالباً إلى المعسكرات التي كانت منتشرة في كل أنحاء المملكة.
جانب كبير آخر من تعليمنا هو الحج “الحج الإسلامي السنوي إلى مكة”، حيث تلعب الجوامع دور المدارس، وهذا هو الموضوع الأكثر أهمية في تعليمها، فهناك ما يقارب مليوني مسلم يزورون مكة خلال الحج. يبث الحجاج – مستخدمين وسائل الاتصال الاجتماعية – القيم والأفكار والتعليم من هذا المكان للمجتمعات الإسلامية في كل العالم، والشيوخ أو الأئمة أو المفتون هم المعلمون الأبرز في مجتمعنا، وهم أكثر أهمية من معلمي المدارس، أو المحاضرين في الجامعة، أو الأستاذة، وصلاة الجمعة أكثر النشاطات التعليمية أهمية، وتقدر على أنها أهم من تعليم المدرسة.
يقوم المنهاج الأكاديمي الرسمي في السعودية على المعرفة المستوردة، كما هو الحال في بعض بلدان المنطقة، مثل النظم التعليمية الأمريكية والأوروبية الشائعة في الإمارات العربية المتحدة وقطر. أعتقد أن وجود نظام تعليم محلي أمر جيد لأنه يتيح وجود مرحلة وسطى بين معرفة المجتمع والمعرفة المستوردة، من دون فرض الطرائق أو الأفكار الأجنبية، ونظامنا التعليمي حقيقة لم يجد بعد المنطقة الوسطى تلك.
ركزت دول الخليج كلها على الأعمال والتطور المدني السريع؛ وتجاهلت التعليم، وخاصة تعليم الفن، ومن المخاطر التي تواجهها – كنتيجة – أنه لا تقدّم نحو نظام تعليم يمكن أن يقف باستقلال على قدم المساواة مع النماذج والمقاييس العالمية. ما نحتاج إليه فعلاً نظام حيادي، يقدم مكاناً آمناً ومحمياً لا يرغم أي فرد بأجندة محددة، بالإضافة إلى ذلك لا بد أن يكون هناك تفهّماً إلى أن نظام التعليم يمكن أن ينفذ مجموعة واسعة من المناهج من دون ضرورة إلغاء الدين.
نحو 60% من سكان السعودية هم دون سن الـ30، وكل فرع من الإسلام يقاتل من أجل ولاء الناس، وهناك عدد قليل جداً من البدائل غير الدينية للشباب أو المجموعات التي تجد أنها قريبة منها، وكنتيجة لذلك يتم تصدير التعليم الديني في المملكة العربية السعودية بطرائق مشوهة إلى مناطق عديدة للعالم كله، مما ساهم – من وجهة نظري – حتى اللحظة الراهنة في عدم الاستقرار الكبير. وهناك أيضاً معركة إيديولوجية خطيرة تجري في مجتمعاتنا حول ماهية السلوك الاجتماعي المقبول، خاصة عندما يتم الحديث عن الفن. تقول الوهابية إن الفن يسرق وقتك، ويبعدك عن الصلاة. وإذا سألت رجل دين قال: (في فهمنا هو حرام، فالفن يجعلك متفلسفاً أكثر، ويجعلك تسأل أسئلة تتجاوز حدود القرآن الكريم)، وهم بأخذهم هذا الخط لا يقزمون النمو والتطور الحالي للإبداع والتقدم فحسب؛ إنما ينكرون التاريخ والتراث كذلك.
إن التشجيع والحفاظ على إيديولوجية تقوم على وجهة نظر واحدة هو أمر مستحيل لخلق مجتمع تعددي، أو ربما مؤذ لـه. إنهم يغنون، لكنهم ينكرون وجود الموسيقى.
أعيش في جدة؛ أكثر مدن المملكة العربية السعودية ليبرالية. الملك السعودي الراحل عبد الله حاول أن يفتح عقول السلفية المغلقة، وأنا أؤيد ذلك بقوة. وعلى أي حال؛ عندما تصدت المساجد لمحاورة الناس من ديانات أخرى؛ استجاب رجال الدين لخطب عبر جدة تحرّم الدعوة إلى التواصل، لأنه تم وضعِ الإسلام على قدم المساواة مع “الأديان الزائفة”. لقد كان منحدراً زلقاً إلى الحرية، والديموقراطية، والمساواة بين الجنسين. إنهم يجادلون الممارسات الفاسدة للغرب الكافر.
الكتب المدرسية في مدارس المملكة العربية السعودية وفي الجامعات تعلم هذا الصنف من الإسلام، فعلى سبيل المثال تقوم جامعة المدينة بتجنيد الطلاب من كل أنحاء العالم، وتدربهم على السلفية، وترسلهم إلى المجتمعات المسلمة في الخارج في بلدان مثل البلقان وأفريقيا وأندونيسيا وبنغلادش ومصر، ليعمل هؤلاء المتشددون الذين تدربوا في السعودية على استئصال الأشكال المتناغمة المحلية من الإسلام. وماذا يمكن أن يكون التطرف الديني غير هذا الهدف لتطبيق الشريعة – أي مدونة قانون مستمد من القرآن الكريم – كقانون دولة أسمى؟ هذا بالضبط ما تحاول أن تفعله الدولة الإسلامية مع خليفتها، وما لم نتحدَّ هذا الاتجاه اللاإسلامي، واللاعملي، وما لم نتحدًّ المفهوم الخاطئ لمحاولة الحكم على أساس صارم للشريعة. وما من عمل من قبل منظمة الأمم المتحدة يمكن أن يحل مشكلة الإرهاب الإسلامي.
وهكذا، وبناء على هذه الخلفية؛ أتطلع إلى المصادر المتاحة في هذه المنطقة لإنتاج تغيير عضوي بطيء لتوجيه المد والجزر في اتجاهات جديدة، وبدل الخوض في إحباط حالة تعليم الفن القائمة؛ اخترت الاستجابة لإجراءات إيجابية بناءة، وقد فتحت استديو فاران، وبدأت إدارة برنامج تعليم فن مستقل من داخل ذلك الإطار، وآمل أن أكمل وأعزز جهود المبادرات الفردية الصغيرة التي ترى أن التعليم ركناً أساسياً من أدوارهم، وتعتبر وجود الموهبة في السعودية كمورد: وهذا يشمل Al Meftaha Arts Village، Edge of Arabia، Athr Art، Art Jameel،Telfaz11، 2139 (the art week that has an education element) ، Shara and Faisal Tamer and Ibn Aseer. هذه الكيانات مهمة جداً للمجتمع من حيث التعليم العالي للفنون، أو أغلبية الدراسات التجريبية والمتقدمة التي تقتصر على عدد قليل من المؤسسات، مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة دار الحكمة، وعلى الرغم من أن الكثيرين في السعودية يرون أن التعليم الفني ترف؛ فإنني أراه ضرورة. التعلم للإبداع واحترام المفاهيمية والجماعية والاجتماع والتمثيل البصري والتأويل والفهم؛ ربما كان أكثر أهمية من أي وقت مضى لتطوير الجيل التالي. ولدى الفن أيضاً إمكانية تنوير كل مجالات المجتمع. وذلك لقدرة الفن على تغذية كل مهنة، واختراق الحواجز العرقية والثقافية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، فبمقدور الفن أن يعزز الفهم، إنه فكر مفتوح لا مكان فيه للخوف، وهو نتيجة ذلك يعزز ثقافة الوعي والقبول.