عام 2002؛ كتب أوكوي إنويزور – باعتباره مديراً فنياً لدوكيومينتا 11 – في مقالة عنوانها (الصندوق الأسود) معاييره الخاصة لتوجهه الطليعي في تنظيم المعارض، مؤكداً أن (المتاحف والمعارض كبيرة الحجم لا تستطيع بمفردها تحديد شرعية الفن المعاصر اليوم، وبدل ذلك تجدهم يحاولون إعادة تأكيد شرعيتهم الخاصة نتيجة تأخرهم في الاعتراف بالواقع المقعد للمجتمع العالمي الجديد). في ضوء هذا الانتقاد يقول إنويزور أن دوكيومينتا 11 يمكن (ألا ترى ختامه في المساحات المذهلة الممتلئة بمشاريع فنية يقدمها المعرض لزوار كاسل). في حين أنه وسع دوكيومينتا ليضم خمس قارات، وعلى مدى خمسة أعوام (1998 – 2002).
وبعد 12 عاماً وعدة مناصب من بينها القيم على بينالي البندقية 56 – المؤسسة المختلفة جداً عن دوكيومينتا – أنتج إنويزور على مدى شهور بدل الأعوام معرضاً بحدود جغرافية وزمنية، في مواقع حول قسم الطرف الشرقي للبندقية.
مع عنوان كاسح هو (كل العقود الآجلة في العالم)، والعديد من الأوصاف المجازية؛ اقترح إنويزور معالجة “حالة الأشياء” من خلال “الحقول الديالكتيكية للمراجع” في المعرض الذي انتشر عرضياً مثل خشبة مسرح؛ حيث كانت الأعمال (مثل أوركسترا) تشغل “وقت الجمهور وتفكيره” بمسافات تشكّل ما يمكن وصفه بـ (برلمان للأشكال). وقد اقترح تحقيق هذه الأهداف من خلال ثلاثة “محاور” هي: (حديقة الاضطراب)، (العيش: في ملحمة البقاء)، و(رأسمالية: قراءة الحياة). وهي مجموعة غير متناسقة تعكس على التوالي موضوعاً بطريقة غير مباشرة، ونهجاً فنياً، ووصفةً، ذلك كان ما تم (فرضه على الآخر في سلسلة).
في واقع الأمر توجد ثلاث موضوعات رئيسة مترابطة في (كل العقود الآجلة في العالم)، كانت واضحة بين الأعمال الفنية الرئيسة المنتجة حديثاً، وهي تمثيل قوي لتجارب المعاصرة الإفريقية، والسوداء، والإفريقية الأمريكية، والأفروكاريبيان، وكل واحدة منها متميزة، إلا أنها تنتمي "إلى فترات ما بعد الاستعمار/ تراث الاستعمار، والحرب والصراع الاجتماعي/ وهي أيضاً – مرة أخرى – موضوعات مترابطة لكنها متمايزة أيضاً، وكذلك الأعمال التي هي انتقاد للرأسمالية العالمية، وفي الوسط كانت هناك أعمال تجريبية متنوعة مختلطة بالتجريد، وبصناعة الأفلام، وبالأداء، وقد بنيت خشبة المسرح الحمراء في الجناح المركزي التي يطلق عليها اسم “أرينا” خصيصاً لهذا الغرض، ولم تكن أقل جدية في أهدافها. ربما بعد ذلك لا محالة كان (كل العقود الآجلة في العالم) في صيغته سرداً جدياً – وتعليمياً أحياناً – للآلام العنيفة التي تشكل بؤس أيامنا الحالية.
وعلى الرغم من تقليل قيمتها في الإعلانات الرسمية للبينالي لأسباب يمكن للمرء فقط أن يتكهّن بها؛ عرض إنويزور تجارب متنوعة لفنانين أفارقة وسود، سامحاً – في الجناح المركزي والأرسينال – بتسليط الضوء على الثروة الثقافية والمواد التاريخية التي تكمن وراءها. كان صف الأعمدة الحداثية في الجناح المركزي مكسواً بقطع من اللوحات القماشية الزيتية الجنائزية السوداء للفنان أوسكار موريللو. في حين علق على إفريز المبنى لوحات نيون للفنان غلين ليغون كتب فيها (blues blook bruise)، مشيرة إلى وحشية شرطة نيويورك في أحداث عام 1964، وكلتاهما تشيران في ذات الوقت إلى وجوب تذكرهما في سياق الأعمال الحالية للقتل الذي تمارسه الشرطة التي أيقظت الانتباه إلى العنصرية المتأصلة، وإلى العنف الذي تتعرض له مجتمعات السود حول العالم.
في مكان آخر؛ يقرن الرسام الأمريكي كيري جيمس مارشال انتقادات حادة من ضواحي المدن الأمريكية في أعماله التصويرية، مع محاكاة ساخرة لأهم أعمال تاريخ الفن في تجريداته الجديدة على طريقة رورشاخ، تحت منحوتات ذات موضوعات موسيقية لكل من الفنان الراحل تيري أدكينز (1953- 2014) الذي كرس حضور شخصيات أمريكية من أصل أفريقي مثل دبليو. بي. دوبويز، ومسكتشف القطب الشمالي ماثيو هينسون. بينما عرض سامسون كامبالو بحثه الواسع النطاق في مركز الناشط الاجتماعي والكاتب جيانفرانكو سانغوينيتي. ومن بين الأسماء البارزة بالفعل المخرج السينمائي ستيف ماكوين، والرسام كريس أوفيلي، والمفاهيمي أدريان بايبر؛ حيث كانت أعمالهم الجديدة الرائعة، ففيلم ماكوين الثنائي القناة (Ashes)/ 2014 – 2015؛ عن صياد سمك غرينادي قُتل عام 2010 بعد أن وجد كمية مخدرات على الشاطئ، وتركيب أوفيلي يشبه كنيسة للوحاته المثيرة، وألواح بايبر مخربش عليها بعبارة (كل شيئ سيؤخذ بعيداً) المتكررة التي تعكس تواريخ مصادرة الممتلكات والحقوق بدوافع عنصرية، وتكريس الثقافة العقابية، أو ربما تشير إلى طلب التعويض عن ذلك.
إن أهمية مشاهدة أعمال عديد الفنانين السود في هذه اللحظة تستحضر الكثير من التواريخ المتنوعة في البينالي أو في أي مكان آخر، لا يمكن تجاهلها، أو التقليل من شأنها.
لقد استكشف العديد من تواريخ ما بعد الاستعمار في أعمال أخرى في العرض، كما تم تناول حالات الحرب والصراع أيضاً. فقد كانت في الأرسينال – على سبيل المثال – سلسلة لوحات أبو بكار منصاري (The Massaka)/ 1997، نفذها على مدى 11 عاماً من الحرب الأهلية في سيراليون (1991 – 2002)، وعمل (الجرس)/ 2007 – 2015؛ للفنان هيوا كي المصنوع على غرار جرس تمثال الحرية في الولايات المتحدة، حيث استعمل فيها خردة معدنية مذوبة في المدينة الكردية السليمانية شمال العراق، وكأنها تجسد بشكل مؤثر وعود التحرير التي قُدمت للعراقيين من قبل موجات متتالية من محررين تحولوا إلى قامعين.
لوحات خريطة سورية للفنانة تيفاني تشانغ/ 2011؛ مستمدة من الرسوم البيانية التي تجدول انهيار البلد، كانت مفعمة بفحوى صدماتها الشخصية النابعة من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على فيتنام، ومع ذلك فإنها بعيدة عن الزخرفة التجريدية إلى حد ما، وتجعلنا نستحضر على نحوٍ أفضل عجزنا عن تصور الواقع. ربما كان مقابل هذه الأعمال من وجهة نظر العرض (إخرج أفلام حالة طوارئ)، وهو عمل جماعي لثلاثة فنانين يسمون أنفسهم أبو نضارة، وكانوا يصورون فيلماً وثائقياً أسبوعياً عن الحرب الأهلية من الأرض مباشرة، وقد تم سحب الأفلام الخاصة بهم من البرنامج في 11 أيار/ مايو.
على الرغم من صعوبة إنكار اقتراح إنويزور بأن (رأس المال هو المأساة الأكبر لعصرنا، واليوم لا شيئ أكبر يلوح في الأفق في أي مجال من مجالات التجارب)؛ فإن علاج البينالي للموضوعات الاقتصادية كان رجعياً بشكل غريب ومبتذلاً في الغالب.
كانت رمزية هذا المنظور العتيق ممثلة في قاعة تعرض صوراً فوتوغرافية تاريخية التقطها أندرياس غورسكي من عام 1998؛ تصور “المتاجر الكبرى” مثل متجر ألعاب الأطفال “Toys R Us” في مراكز التسوق الأمريكية التي أنهكت لاحقاً من قبل التجارة على الإنترنت، ومكتب التداول الإلكتروني لبورصة شيكاغو التجارية الذي اختُطف حالياً من قبل تجار مدعومين بإستراتيجيات التداول المتكرر والسريع، فيما الضحالة المماثلة كانت في الفيلم الوثائقي للمخرج إم هيونغ ـ سون (Factory Complex)/ 2014؛ المتمحور حول مقابلة وثائقية بطولها الكامل، والتي تتتبع استغلال العاملات في المصانع الكورية. تلك القصص – بغض النظر عن كم هي مخجلة في الواقع – غدت معروفة على نطاق واسع، على الأقل منذ احتجاجات التسعينيات ضد مصانع نايكي الاستغلالية.
لحسن الحظ، ووسط تلك الشكاوى المضجرة حول العولمة التي تعود بنا إلى نهايات القرن الـ20؛ كانت هناك بعض الأعمال التي قدمت جماليات غريبة حقاً، مثل غرابة لوحات كاترين غروس التي رسمتها باستعمال أكوام من الأوساخ، وإرنستو بولستيروس الذي أطلق طائرة صغيرة الحجم وخفيفة الوزن في الأرسينال، وفيلم كريستيان بولتانسكي الذي يصور أجراساً يابانية معلقة في الصحراء التشيلية.
لا يمكننا أن نعرف لماذا وكيف يمكن أن تشعرنا إحدى أهم البيناليات العالمية أنها خارج العصر في مثل ذلك الموضوع المركزي، وربما كانت أكثر الأشياء غياباً بشكل صارخ في (كل العقود الآجلة في العالم) هو الافتقار لتصور جذري لاقتصادات ولبيئات ولذاتيات بديلة. ربما يعكس هذا رؤية الألفية التي ترى أن لا مستقبل لنا.
بالتأكيد إن أي فهم للطريق إلى الأمام يجب أن يكون مبنياً على تقدير صادق للماضي، لكن هناك استجابات فنية تعكس بالفعل التطورات الاقتصادية في القرن الـ21، حيث موجات المهاجرين اليائسين تعيد تشكيل كل قارة، والنمو المضطرد الثابت الذي يستوجب “تقاسم الاقتصاد”، والجيل الجديد من الإنترنت “إنترنت الأشياء” إذ يتم ربط الناس بالأشياء الخاصة بهم، والنشاطات، وتنشيطها حتى بواسطة العالم الافتراضي، والقبول الجماعي للتدهور البيئي المستمر، لكن كل هذه الأمور لم تعالج على نطاق واسع في (كل العقود الآجلة في العالم).
من الغريب أو الملائم أنه ورغم كل التركيز على كتاب ماركس رأس المال – حيث كانت في البينالي، قراءة دراماتيكية من الكتاب 3 مرات يومياً، مدة القراءة الواحدة 30 دقيقة) بإذن من إسحق جوليان في سعيه للتعامل بطريقة مؤثرة للغاية مع معاناة عالمنا الحالي، وقد اعتمد معرض إنويزور على النصوص المعروفة من القرن الـ19 وما بني عليها في القرن الـ20، كما تناول ثقافات المقاومة التي استمرت على الرغم من تراجع الليبيرالية الجدية التي كانت مستقبل الأمس.