قضيت نصف عمري البالغ 40 عاماً في عالم الفن، من دون الاستفادة من الإنترنت. إن بدايات عالم الإنترنت ونموه المتزايد وخاصة في العقد الأخير؛ جعلا الفن يقفز إلى عالم أكبر، فيه عدد أكثر من المشاركين، وإمكانيات أكثر للوصول إلى المعلومات والمنتجات، ولكن لتحقيق الهدف الأسمى بأن تصبح قارئاً ناجحاً للفن؛ عليك أن ترى الأعمال الفنية شخصياً في العالم الحقيقي.
كان من دواعي سروري في الآونة الأخيرة مشاهدة المعرض الأخير للفنان رامرانت فان راين، والذي طال انتظاره، ومعرض (Late Rembrandt) أقيم في المتحف الوطني للفن والتاريخ في أمستردام؛ كان مزدحماً بالزوار، وأنا أعددت نفسي لحضوره مع حشد من الناس، وعلى الرغم من الزحام فقد كنت مأخوذاً بالشعور الإنساني الذي قدمه العملاق الهولندي في لوحاته، حيث يجسد رامرانت شعور الإنسان من خلال ضربات فرشاته، أي لمسة اللون التي تعطي بريق العين، أو ضربة السكين التي تضيف على اللوحة القماشية لمسة قوية، أما حجم اللوحات الزيتية الجدارية الضخمة فيبعث على الدهشة. كان حضور المعرض شرفاً كبيراً لي.
بالنسبة لي تعني كلمة “امتياز” القدرة على السفر إلى جهة ما، أي أن أشتري بطاقة سفر، وأرى الأعمال الفنية مباشرة، ربما يتيح لي الإنترنت استكشاف العديد من الصور من خلال وقائع عن الفنان، وبصورة خاصة عن فنان شهير مثل رامرانت، لكن هل هي أكثر إمتاعاً مما تجده في رؤية ما صنعته يد الفنان عن قرب؟
إن الإنترنت بوابة مذهلة للوصول إلى معلومات حول الفن، وفوق ذلك بشكل رقمي. لكن هناك أوجه قصور كامنة في الفهم الكامل لموضوع الإنترنت، فبعض القضايا لم تتغير منذ استخدام الشرائح في التصوير مع بدايات 1850، إلى الصور الشفافة، وحتى طباعة الأعمال في كتب، وما من عمل يمكن أن يشاهد على شاشة الكمبيوتر يمكن استنساخه بدقة في اللون، وليست هناك علاقة لذلك بالحجم، في حين تصبح المشكلة أكبر عندما تشاهد فيلم فيديو أو منحوتة. لقد صورت معظم أفلام الفيديو ليتم عرضها رقمياً بشكل محدد، وهو لا يتناسب وشاشة الهاتف الذكي. إن النظر إلى منحوتة على شاشة مسطحة صعب للغاية، لأنها عمل ثلاثي الأبعاد يجب أن تعرض من كل الجوانب.
التشبيه الجيد هو طريقة الفرد في استهلاك الموسيقى والرقص والأوبرا، وبالتالي فإن تجربة كل مشاهد هي فريدة من نوعها، وذلك حسب مكانه بين جمهور المشاهدين، سواء كانوا يجلسون في القسم العلوي، أم قرب خشبة المسرح، أو على الجانب، فكل مقعد يحيل إلى وجهة نظر مختلفة، وربما يؤثر على الصوت، كما تختلف الإضاءة حسب منظور الشخص. إنه ذات الأمر في مشاهدة الأعمال الفنية، إذ يستطيع المرء أن يشاهد العمل الفني عن بعد أو عن قرب، مع أو بدون ضوء طبيعي. خذ مثلاً منحوتة على الشرفة في الهواء الطلق: كيف تبدو القطعة مع الأشياء أو الأعمال الأخرى المرافقة لها؟ جميع هذه الجوانب تشكل تجربة الفرد في العمل الفني.
فكر الآن في المشاهدة على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف الذكي، قد يكون الحجم كبيراً أو صغيراً، لكنه مع ذلك هو مسطح. إن نوعية اللون من شاشة إلى أخرى ليست ذاتها أبداً، وهي أقل بكثير من العمل أو الشيئ الفعلي أو الأحداث التي تتم رؤيتها، واستنساخ الأصوات يفتقر إلى المتعة المميزة في الحياة الحقيقية، إذ لا يمكن معرفة الحجم الحقيقي الذي يترك للتقدير.
تلك الملاحظات ربما كانت واضحة، لكن مثل هذه التناقضات لا تناقش في كثير من الأحيان بما يكفي. فالكمبيوتر أداة تعليمية قوية تتيح لعدد ضخم من الناس تجريب الفن في الفضاء الافتراضي، لكن دمقرطة المعلومات من دون تنظيم مسألة خطيرة، حيث باستطاعة أي شخص يمتلك صوتاً مهماً وإمكانات مالية؛ الترويج لمنتج ما.
هناك ميل للاعتقاد أنه عند استعمال غوغل للبحث عن فنان – على سبيل المثال – فإن الرابط كيفما ظهر يكون الهدف الأول منه نشر أكبر قدر من المعلومات، وحقيقة الأمر أن ترتيب صفحات شبكة بحث غوغل يعطي الأولوية حسب لوغاريتمات تأخذ بالحسبان الكلمات الأكثر بحثاً وشعبية، وليس المعلومات الأكثر دقة بالضرورة . إن الإعلانات التي تظهر بانتظام في أعلى صفحة البحث يتم اختيارها بذات الطريقة تماماً: إعلانات مدفوعة.
إن المشاهدين المبتدئين الذين يحاولون تثقيف ذواتهم عن الفن ربما يشعرون براحة أكبر بمشاهدة الأعمال الفنية على وسائل الاتصال الاجتماعية مثل فيسبوك أو إنستغرام، لكن مواقعَ كهذه لديها تنظيم تسلسل هرمي.
ينبغي دائماً عدم الخلط بين الشعبوية وبين القيمة الجمالية. فقد أدى الإنترنت دوراً في احتضان وجهات النظر الشعبية، وأتاح للناس التعبير عن آرائهم، لكن القيمين على المتاحف يقدمون تعليماً وعرضا أكثر دقةٍ للفن غير موجود في سوق بيع وشراء الأعمال الفنية، وليست هناك طريقة أفضل من توجيه الفنانين المؤهلين لذلك.
توجد جحافل من المتخصصين الذين كرسوا حياتهم للفن، مثل القيمين على المتاحف، ومديري صالات العرض، والنقاد الفنيين، ومؤرخي الفن، والأفراد الذين لديهم أعوام من الخبرة، وأولئك يستطيعون تقديم معلومات أفضل في محادثات مباشرة أثناء مشاهدة الأعمال الفنية.
هل هناك فوائد من شراء الأعمال الفنية عن طريق الإنترنت؟ ربما، لكن هناك محاذير، فعلى المشتري أن يسأل: هل يمكن مشاهدة العمل الفني مباشرة قبل أن يشترى؟ ما هي حالة العمل، وهل الحالة مضمونة؟ هل الموقع الذي يتولى العرض يتقاضى عمولة؟ أم أنه مجرد صلة وصل بين المشتري والبائع؟ وإذا كان الموقع موقع مزاد؛ فهل يقدم نتائج البيع؟.
يشغل المواقع أناس لهم أغراضهم الخاصة. فهل هم خبراء مؤهلين في الفن؟ إن إغراء سوق الإنترنت تعززه الراحة وتصميم الموقع والمحتوى، وهي في كثير من الأحيان مأخوذة من صالات العرض. عندما تشتري عن طريق الإنترنت؛ تذكر أنه مخزن في مكان ما، ويجب أن يكون البائع قادراً على الإجابة عن الأسئلة التي سئلت أعلاه بصورة مُرضية.
يواجه عشاق الفن اليوم عالماً موسعاً للفن، مع العديد من وسائل استيعاب المعلومات، فقد عزز الإنترنت معرفة الناس بالفن، لكن ذلك جزءاً واحداً فقط من تجربة المشاهدة. فمشاهدة الفن مباشرة تبقى الجزء الأساسي من المعادلة، سواء في صالة عرض، أم في متحف، أم في مرسم الفنان.