هناك مكان صغير بين جدارين زجاجيين يواجهان الشارع قبالة وسط ميدان تقسيم، في الجزء العلوي من الشارع الذي ينعطف إلى الأسفل نحو قصر دولما باتشيه، عُلّق في تلك الغرفة التي مساحتها 12 متراً مربعاً في حزيران/ يونيو ورقة واحدة مؤطرة، مع ثقب صغير حرق في وسطها، وهي عمل يعود إلى عام 1976 للفنان المقيم في روما يانيس كونيليس من كوليزيون رامو في ميلان، وهي تستحوذ فقط على أعمال على الورق لفنانين إيطاليين من القرن الـ20.
كان هناك دائماً ما يمكن أن تراه في تلك النوافذ على مدى الأعوام الأربعة الماضية، ويمكن أن تكون قد شاهدت قبل عامين عرضاً صامتاً، عملاً فنياً للفنان الفرنسي جوليان بيزموث من مجموعة الطبيبين النفسيين المارسيليين خوسيه ومارك جينسولينح اللذين يجمعان أعمالاً فنية لها حد أدنى من الوجود المادي، أو التي لا وجود للمادة فيها.
قبل عامين من ذلك، عندما افتتح المكان لأول مرة خلال بينالي إستانبول عام 2011، كان هناك تمثال لامرأة مستلقية تبدو محلّقة في الهواء بين تركيب كرسيين، وعمل للفنانة غوشكا ماكوغا فيه لوحة لشخصية ألمانية روسية (مدام بلافسكي)/ 2007، وعمل تملكه فاليري نابوليوني اللندنية التي تركز مجموعتها حصراً على الفنانات.
ذلك المكان الصغير النفيس هو “Collectorspace” المؤسسة غير الربحية التي يديرها هارو كومبوشيان الذي عمل سابقاً مديراً استشارياً، والآن هو رجل أعمال. ولد لعائلة أرمينية إستانبولية. ونشأ في ذاك المبنى بالذات، واسم عائلته مكتوب بحروف حديدية بيضاء رسمت فوق المدخل. في أواسط الستينيات حوّل والده جزءاً من البيت المقابل للشارع إلى محل للتحف العتيقة، وخاصة المصابيح الأوروبية. قال كومبوشيان بعد القهوة؛ خلال آرت بازل في حزيران/ يونيو إنه يتذكر وهو طفل صغير كيف كان بحاجة إلى حرص شديد لينقل التحف الهشة التي تملأ المحل، حيث كان يأتي الكثير من الناس لطلب الفائدة من خبرة والده.
مع أن اهتمامات كومبوشيان الجمالية كانت مختلفة عن والده، إلا أن “Collectorspace” كان يشبه إلى حد ما دكان المصابيح الأوروبية، وكمكان صغير كان الأجانب يجدون فيه غالباً أشياء قيّمة يمكن أن يقدروها، ويعرفوها ويتبادلوا المعلومات عنها حتى الآن. وقد نظم “Collectorspace” ما يقارب 10 مشاريع، وعرض أعمالاً نموذجية وجدت في مجموعات خاصة من حول العالم تعكس تنوعاً في نهج المقتنين الذين يجمعون الفن المعاصر. أراد كومبوشيان ومديره أوزوي إرسوي اختبار جمهور إستانبول الأعمال الفنية، كما أرادا أيضا أن تكون هذه الأعمال ممثلة لمالكي المجموعات، ومصحوبة بأشرطة فيديو عن نشاط مقتني الأعمال الفنية، وكما قال كومبوشيان لي: (ما كنا نحاول فعله هو التحدث حول الفن المعاصر، كنا فقط نقاربه من زوايا مختلفة).
تعود فكرة “Collectorspace” إلى أيام كومبوشيان وزوجته بيلج أوغوت في نيويورك، حيث عاشوا عقداً من الزمن حتى عام 2008، وكانا عضوين في عدة دوائر رعاية المتاحف آنذاك، مما منحهم فرصة الاطلاع على مجموعات الأعمال الفنية الخاصة في المدينة. يتذكر كومبوشيان من الفترة التي كانت فيها نيويورك منفتحة: (عندما تقف في غرفة نوم شخص ما؛ فإن ما سيقولونه حول عاداتهم في جمع الأعمال الفنية مختلف جداً عما سيقولونه في المعارض الفنية. إنه شيء لا يكتب. أنت تحصل على نافذة إلى عقولهم. وقد أحببت تلك العلاقة الحميمة).
قادتهما تجاربهما إلى فكرة "Collectorspace"، لكنهما عرفا أنها ليست مناسبة لنيويورك. يقول كومبوشيان: (كانت فكرةً لدمج أسواق الفن، ولخلق تجربة “زيارة مجموعة فنية”، وللتحدث عن مناهج مختلفة، وهكذا يأخذ الناس فكرة حول ما يمكن فعله بالمجموعة الفنية).
في الأسبوع الذي عرض فيه عمل كونيليس في “Collectorspace” في معرض سابت بيوغلو (كل تضمين هو تضمين لاحتمالات أخرى) الذي افتتح بأعمال تم أخذها من ثلاث مجموعات خاصة من تركيا هي: مجموعة آيشي وساروهان دوغان، ومجموعة توتن وآغا أوغور، ومجموهة كمبوشيان وأغوت. متماشياً مع ذات أفكار "Collectorspace"، لكن مع مساحة أرضية أوسع. كانت أهداف المعرض ذات شقين، أولهما: عرض أعمال للجمهور يملكها مقتنون خاصون، وثانيهما: النظر فيما اكتسبته الأعمال في العقد الأخير من قبل ثلاثة مقتنين بارزين. وقد شمل المعرض فنانين شهيرين من تركيا، مثل المخرج السينمائي كوتلوغ أتامان، والنحات آيشي إيركمين، وأيضاً شخصيات دولية شابة تستكشف الصور الرقمية، هي: إد أتكينز، وجوردان وولفسون، وأوليفر لارك.
.
أثناء العشاء في إستانبول قبل أسبوع من لقائنا في بازل؛ كان كومبوشيان يتأمل بمجموعته الفنية الخاصة. قال إنه أدرك أن المشاركة بأعمال في معرض إستانبول تُظهر في عدة حالات أن صرامة شروط الفنانين في عرض أعمالهم على الجمهور يمكن أن تستنفذ حتى ميزانية المؤسسات بما فيها المؤسسات الغنية، وتستهلك قدراتها المكانية والتقنية، كما اكتشف أن بعض أشرطة الفيديو التي يملكها حُمِّلت على الإنترنت من قبل الفنانين ذواتهم، وأنها متاحة ليحمّلها عامة الناس، الأمر الذي أثار محادثات واسعة حول كم يخطئ المقتنون غالباً في فهم علاقتهم مع حقوق الطبع والنشر التي هي في معظم الحالات من حقوق الفنانين. يروي كومبوشيان حواره الخاص مع زميله المقتني آلان سيرفيه الذي اقترح أن يوقع الفنانون والمقتنون عقداً بعد شراء العمل ينص على شروط التعامل معه في المستقبل.
في الوقت الذي يقدر فيه كومبوشيان الحاجة إلى توضيح المناطق الرمادية بما يخص أعمال الوسائط الجديدة؛ فإنه يوضح إمكانية أن يكون من الصعب إقناع صالات العرض ببيعه أعمالاً لفنانين مرغوبين، وإذا غيّر رأيه كمشترٍ وطلب أن يوقع الفنان على اتفاق معقد؛ فمن الممكن أن يرفض الفنان والصالة معاً، ومن جهة ثانية يعتقد أن قيم أعمال الصورة المتحركة متعثرة بسبب غموض الملكية، ومعوقات عرضها، وأن الفنانين سيستفيدون أيضاً لو كان المقتنون أكثر ثقة بالأعمال التي يشترونها.
يقول كومبوشيان لا مانع لديه من التدقيق في الأرقام والبيانات: (من الصعب رؤية الأرقام في الفن، لكني أيضاً أراها بطريقة أكثر تحليلية، وربما أكثر مما يراها البعض). يبحث كومبوشيان باستمرار عن تضاريس جديدة. الآن هو مهتم بالزراعة الحضرية التي يقول عنها مازحاً: (انعطاف بـ90 درجة). أقمت في حزيران/ يونيو في الطابق الذي يقع تحت “Collectorspace” ندوة مسائية مع إيرينا زوكا اليساندريلي قيّمة مجموعة كوليزيون رامو، والتي ستتفتح قريباً باسم مقهى “إك بيج يي إج”، أي (ازرع واحصد، كل واشرب)، حيث سيكون الكثير مما تنتجه مزروعاً في المكان، أو مصدره من الحدائق التاريخية العامة المعروفة باسم بستان. يقول كومبوشيان إن هذا المشروع هو استجابته على احتجاجات جيزي عام 2013، التي بدأت عندما تظاهر سكان إستانبول ضد خطة الحكومة لإزالة حديقة بجوار ميدان تقسيم لتفسح المجال لإقامة سوق تجارية أخرى. يتصور كومبوشيان المقهى كملتقى لتبادل الأفكار كما هو الحال في "Collectorspace"، حيث يوجد جيل جديد من سكان المدينة يتبادلون الأفكار حول كيفية جعل إستانبول مكانا أكثر استدامة للعيش.
آنذاك اشترى كومبوشيان شيئاً واحداً فقط في آرت بازل، وهو مجلد من المقالات التي تتفحص نماذج بديلة للتبادل الاقتصادي عنوانه (العطاء والأخذ: الترياق لثقافة الجشع)، وتأمل قائلاً: (بالتأكيد هناك الآن الكثير من الفنانين الذين يشاركون في النقاش حول أنظمة القضايا الاقتصادية والسياسية العالقة، ومن المفترض أن يتحداها الفنانون، أو على الأقل أن يكونوا من الجماعات التي تفعل ذلك. إن معظم المشاريع الفنية التي تستهويني الآن هي المشاريع التي لا تسمي ذاتها فناً).