كل قارئ للمجلات الفنية يعرف كليشيهات قصص مقابلات مقتني الأعمال الفنية وهو يتباهى، واقفاً باعتزاز وسط كنوزه، يروي حكايات عن منبع وأصل الأعمال التي يملكها، وعن دافعه لتتبع الفن وإدمانه عليه، وعن الفرصة المفاجئة التي كان محظوظاً بها، ونشاطه البارع في جولاته في عالم الفن، وتعامله مع التجار، والمستشارين الدمثين، والفنانين الذين أصبحوا أصدقاءه بسرعة.
المقتني بطبيعة عمله يدور في فلك العالمية، تارة ينجح في استثمار المواهب الشابة، وأخرى يخسر أعمالاً لكبار الفنانين لأن غيره دفع مبالغ أكبر فيها. إن الجوائز الفنية الرفيعة في صفحات المجلات تسهم في شهرة الأعمال الفنية، وفي سمعة مقتني الأعمال الفنية، وأهميتهما في المستقبل.
هذه المقالة الثالثة والأخيرة في سلسلة النظام البيئي للفنون في الإمارات العربية المتحدة تختتم بالتعليق على التوقعات.
بالنسبة لكل الكليشيهات عن الإمارات كموقع للاستهلاك؛ فإن العديد من المقتنين هنا يمثلون حضورهم بهدوء، وحتى بطريقة غير مرئية، وفي ذات الوقت فإن إمكانات تجميع الأعمال الفنية تنمو وتتسع في البلاد بالنسبة لمقتني الأعمال الفنية، وعلى رأسهم الأسر الحاكمة في الإمارات التي تتصدر المشتريات الفنية.
أسرة آل نهيان الحاكمة في الإمارات لديها رؤى طموحة لجعل الإمارات منارة ثقافية، ولهذا تقوم برعاية فنون المعرض السنوي للفنون الذي يقام في العاصمة (فن أبوظبي)، بينما في دبي والشارقة يتم الانخراط عميقاً في تشكيل ودعم البيئة الفنية التحتية المزدهرة، وأيضاً في عملية تجميع دائمة رفيعة المستوى.
خمسة مقتني أعمال فنية وافقوا على مقابلتنا لهم لمناقشة دورهم في عالم الفن في الإمارات، بدءاً من علاقاتهم بالمشهد الفني، وصولاً إلى توقعاتهم لحماية بيئة فنية في البلاد. ويبدو واضحاً من تلك النقاشات أن عالم الفن في الإمارات فيه احترام وإيمان بالإمكانات، إذ هناك حس قوي أن على مقتني الأعمال الفنية منح عالم الفن ومساندته، وهناك إيمان قوي متجذر غير متوقع بشخصيات مهمة تقود المؤسسات التجارية.
يمكن تصنيف المقتنين في الإمارات العربية المتحدة على أسس ديناميكية، فهناك “مقتني السلطة”، وهو الذي يحصل على أعمال مهمة رائجة على نطاق واسع محلياً وعالمياً، ويضعها ضمن مجموعة كبيرة تعرض للمشاهدة العامة، إما مؤسساتياً أو شبه مؤسساتي، وربما كان الكاتب والمعلق السياسي في الإمارات العربية المتحدة سلطان القاسمي مؤسس مجموعة برجيل التي تتخذ من الشارقة مقراً لها مثالاً لهذا النوع من المقتنين.
ومعه في ذات التصنيف رامين صلصالي المولود في إيران، والذي خزن مجموعته في متحفه الخاص في دبي الذي يحمل اسمه.
والنوع الثاني هو “الجامع الدائم” المحترف الذي يسافر شرقاً وغرباً، متحمساً للأعمال الفنية، واهتمام هذا النوع من المقتنين راسخ في الصالات المحلية وصالات ومعارض المنطقة، وفي المعارض ودوائر المزادات، إضافة إلى مشاركات منتظمة للساحة الدولية، وهذا النمط من المقتنين هو شريان الحياة للصالات التجارية في دبي، إذ يخصصون وقتاً كبيراً وموارد مالية لمواصلة تجميع الأعمال الفنية، ومع ذلك هم لا يعيرون مجموعاتهم، ولا يعرضونها بالضرورة للعامة.
وأخيراً هناك “جامع المستقبل”، وهو شخص ناشئ حصل على مجموعة قطع ذات سمعة جيدة، ولديه رغبة بتنمية هذه القاعدة، لكن ميزانيته الحالية المحدودة تتحكم بالقطع الفنية التي يمكنه جمعها.
المقابلة الوحيدة مع “جامع المستقبل” في هذه المقالة هي مع وائل حتّر الذي يصف ذاته بأنه “شقي المغتربين”، ولد ونشأ في دبي لأبوين من الأردن ولبنان، جمع مجموعته كلها من الصالات والمعارض في الإمارات العربية المتحدة. يقول وائل بثقة: (لم أكن مدركاً أني مقتني أعمال فنية إلى أن أخبرتني الصالات بذلك). ومع تأسيس هويته أنشأ حتّر مجموعة من مالكي الأعمال الفنية الطامحين، والتي يترأسها، واسمها (Young Collectors Collective “YCC) التي تضم حالياً 45 عضواً. وجماعة المقتنين الشباب هذه تناقش شهرياً أوضاع الفن وذلك لوصل المقتنين المحتملين مع الصالات، حيث تقدم كل صالة تعريفاً مدته 20 دقيقة عن فنان معين، أو مدرسة فنية، أو عملية فنية إلخ، وذلك قبل عرض أعمالٍ بأسعار أقل من 10,000 درهم إماراتي، أي ما يعادل 2,725 دولار أمريكي.
الأربعة الآخرون الذين قابلتهم كلهم من مراتب متفاوتة من النمط "الدائم"، وحسب تقدير مدير العلاقات الدولية وكبار الشخصيات ليلا كساكي؛ فإن عددهم يصل إلى المئات.
الكاتب الإماراتي والمعلق مشعل القرقاوي، مدير عام معهد دلما، لديه ما يسميه علاقة "عمودية"، أو مشاركة اختيارية في الفنون. خلال حياته كمستشار مالي في الألفينات كان من أوائل الداعمين لصالة دبي “Third Line” حين افتتاحها عام 2004، وقد نضجت مجموعة القرقاوي إلى أبعد مما هو استحواذ قطع فنية حصراً من الفنانين الذين تربطه بهم علاقة شراء أعمالهم الفنية، إضافة إلى ذلك أصبح يسعى وراء القطع الفنية التي تستهوي “فضوله”.
ومن نوع “الجامع الدائم” هناك طارق مكناس المولود في بيروت، والرئيس التنفيذي لمجموعة الإعلان إف بي 7؛ القاعدة الأمامية في الشرق الأوسط لإمبراطورية “McCann” العالمية. طاف مكناس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما بعدها من أجل مجموعته الشخصية التي تضم أعمالاً لبانكسي ومايكل راكويتز، لكنه جمع أيضاً للفنانين غير التجاريين لوكالات الإعلان، وهو يقول بفخر: (أبحث عن أصوات جديدة لألهم الناس، ولأظهر لهم أنهم يستطيون أن يكونوا مقدامين).
جامع آخر من هذا النوع، هو رجل الأعمال اللبناني المقيم في دبي تشارلز الصيداوي الذي يركز على الفنين العربي والإيراني فقط، بعد أن جمع دولياً لأعوام عدة، بينما سارة تاكيش المقيمة في دبي ومؤسسة المعرض التجاري للملابس الراقية (Tarsian & Blinkley) تجمع حصراً أعمالاً للفنانين الشباب الناشئين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأماكن أخرى، وهي معجبة وتقدر عالياً الفن الباكستاني الجديد، ومثل أعمال شركتها الموجودة في كابول والتي تعطي الخياطات الأفغانيات أجوراً عالية؛ كذلك هو شراء الفن بالنسبة لتاكيش، إذ لا بد أن يكون ذا معنى أعمق من الاستثمار، وهي تصر على أن (الجمع هو شيء أقوم به لأسباب مخلصة للغاية).
مقتنون متنوعون بوجهات نظر متمايزة يعملون في نظام يجد كل منهم فيه ما يجذبه وفق مقاييسه الخاصة. تقول تاكيش: (السبب الذي جئت من أجله إلى دبي؛ هو أن المجال كان أصغر. من الأفضل دائماً أن تحدد خياراتك، ويجب أن تكون قادراً على أن تنظر بتمعن إلى شيء ما). وعن علاقة الحب والكراهية للمكان بالنسبة لبعض المقيمين في دبي تقول تاكيش: (لقد أصبحت مكاناً أكثر وفرة)، والعلاقة الحميمة مع المشهد الفني كان يمكن أن تكون إلى حد ما مفيدة. تتذكر قائلة: (الناس والأمكنة التي اكتشفتهما لأول مرة في عالم الفن 2008 أنقذتني مما لم أكن أحبه دبي آنذاك). صالات العرض – كما يجمع الكل – تفتج مجالات للتواصل على هذا المستوى الإنساني. كما يقول الصيداوي: (لدينا ميزة سهولة التواصل، والصالات تعرف ماذا يعجبك، والمالكون يدعونك).
من ضمن مشهد المقتنين في دبي؛ تزدهر مبادرات بناء المجتمع على نطاق صغير. صالون الفن " Art Salon" أرقى قليلاً من جماعة المقتنين الشباب بالنسبة لحتّر، وهو برنامج أطلقته دبي عام 2014 للأعضاء المقتنين الذين الآن يبلغ عددهم حوالي 50 عضواً، ليلتقوا في منازلهم ويناقشوا أعمالهم وميولهم وفلسفتهم. وقد شارك كل من حتّر والصيداوي في هذا النادي الذي تتم المشاركة فيه عن طريق الدعوة فقط، وهما ينظران إليه على أنه مبادرة تأسيسية مهمة لتنشئة مقتنين أكثر استنارة وثقة، وبالتالي للحفاظ على سوق الاقتناء. يرى حتر: (فائدة مثل هذه المحافل هي أن الناس عادة يتساءلون فيما إذا كان من اللائق الإعجاب بقطعة فنية ما، وبعدها امتلاك الشجاعة للإقدام على شرائها).
كما هناك فائدة أخرى للمشهد الفني الناضج، وهي التواصل مع صالة العرض، ليس فقط بسبب التعامل التجاري، إنما على مستوى العلاقات الشخصية أيضاً. يلاحظ القرقاوي أنه (عندما يتعلق الأمر بصالات العرض هنا، فقد وجدت أن ذلك شغف أفراد محددين؛ واحترامهم لذواتهم والتزامهم أمران مهمان جداً لهم. إنني أحترم عمير بوت – من صالة دبي “Grey Noise” احتراماً كبيراً، فقد أحضر وجهة نظر مهمة جداً للنقاش. إنه يتحدى فهمنا لقضايا جنوب آسيا، وخاصة في السياق الخليجي، حيث توجد وجهات نظر مبتذلة حول ذلك).
إن العلاقة مع الفنانين تستفيد أيضاً من قوة العلاقات داخل المجتمع. يقول مكناس: (إذا شعر الفنانون من جانبنا في هذا العالم أنك مهتم فعلاً بما ينتجونه، فإنهم يمدون أياديهم إليك، وهم فضوليون تجاهك بمقدار ما أنت فضولي تجاههم). ومع ذلك ما تزالت الإمارات العربية المتحدة إلى حد كبير بلداً ليس فيها عدد كبير من الفنانين المغتربين المقيمين، وبينما يجادل البعض بأن ذلك نتيجة سياسة الدولة في موضوع الهجرة التي تمنح إذن الدخول فقط لمن لديهم عقد عمل، فإن القرقاوي يعارض هذا الرأي قائلاً: (إنها قضية اقتصادية. وليس هناك عدد كاف من الرعاة والممولين. إنها طبيعة دبي، هي ليست بالضرورة المكان الأفضل لتأتي إليه عندما تكون في بدايتك، إنها بالتحديد المكان الذي تأتي إليه عندما تكون قد حققت الشهرة. وهذا الوضع يوضح الفرص الضائعة)، وذلك نظراً لوجود عدد أكبر من الفنانين المقيمين في البلاد.
ما يبدو ناقصاً في هذه البيئة الفنية من وجهة نظر هواة التجميع؛ هو التعريف بمشهد الصالات الفنية، والترويج للمجموعات الموجودة، حيث يعتقد بعض المقتنين أن عالم الفن سينمو فقط إذا آمنت غالبية الناس بضرورة استمرار الصالات، وهو ما يعني التواصل بشكل أكثر وضوحاً، والوصول إلى جمهور أكبر. يقول حتّر: (هكذا يصبح عالم الفن المحلي ليس السر الرائع الذي لا يعرفه أحد)، وقد قوبل هذا الاقتراح بردود فعل غير مشجعة من قبل زملائه المقتنين المشاركين في الحوار. يعلق القرقاوي : (إن ما تحتاجه دبي بالتأكيد هو الأمكنة العامة، ولا تحتاج المتاحف، إنما صالات وطنية. كل ما تحتاجه هو غرفة وصالة على شكل U، ومكتبة إلى جانبه ومقهى. ويمكنك بعدها أن تفتتح في نهاية المطاف كلية للفنون. أنا أعرف على الأقل ثمانية أفراد من الأسرة الحاكمة أو من المسؤولين الحكوميين الذين يمكنهم دعم مكان كهذا لمدة ثلاثة أعوام بقروض شخصية منهم لوحدهم).
في بلد تعمّرت بسرعة بتمدد البناء، حيث تنمو منشآت ضخمة بين عشية وضحاها؛ يتبن أن النمو الثقافي يسير ببطء. بينما يذكرنا المقتنون بسرعة بالكثير الذي تحقق في وقت قصير، فيتذكر الصيداوي أنه (كان هناك قبل 10 أعوام صالة حقيقية أو اثنتان)، وهم يعترفون أيضاً أنه ما يزال هناك الكثير مما يجب إنجازه، مثل نماذج اقتصادية مناسبة، وسياسة ثقافية شاملة، والانتقال إلى أن تصبح مكاناً للتصدير الثقافي، حتى في أبوظبي، إذ أن افتتاح فرع لمتحف اللوفر ولمتحف غوغنهايم سيجعل الإمارات العربية المتحدة قوة ثقافية، فهناك شعور بأن المؤسسات المحلية أهملت إلى حد ما لصالح هذه الغاية. يقول القرقاوي: (كان على أبوظبي أن تبدأ ببرنامج زمالة قوي، وبعدئذ أن تكون قد بنت ببطء كلية للفنون ومكاناً عاماً ومجموعة أعمال فنية، ثم في نهاية المطاف). لكنه يسمع أخباراً مطمئنة من عالم رجال السياسة الذي نما مثل الصالات والجامعين. ويقول: (هم يعرفون أنهم ملتزمون بتحقيق الغاية، لكنهم بعد ذلك سيعودون لإكمال البداية). بعد ذلك ستصبح الحلقة كاملة.