“نحن نمر بأزمة الهوية الوطنية. من نحن؟ هل نحن جنوب آسيويين، أم بنغاليون، أم مسلمون؟”
- نازيا عندليب بريما
شهدت بنغلاديش ما يشبه الفورة السياسية والثقافية المستمرة منذ تاريخ استقلالها عن البريطانيين في المرة الأولى، وقد عرفت لاحقاً باسم باكستان الشرقية، ثم عن باكستان عام 1971. وقد عانت الأمة على مدى القرون الأربعة الماضية من الديكتاتوريات العسكرية، والكوارث الطبيعة والصناعة، والعولمة السريعة، والاتصال مع "الغرب"، ومن البلدان الآسيوية المتطورة أيضاً، وبالدرجة الأولى من المنظمات غير الحكومية والأعمال والمعامل التي أسستها شركات متعددة الجنسيات. وفي ذات الوقت شهدت البلاد علاقات اقتصادية واجتماعية ودينية مع العالم الإسلامي، حيث يسافر مئات الآلاف من البنغاليين إلى السعودية والخليج كل عام بهدف العمل أو الحج والعمرة في مكة. هذا الواقع يسهم في وجود تحديات تكوين هويات شخصية ووطنية، كما يؤثر على علاقة البلاد بالماضي الجمعي وبالعالم. والكثير من البنغاليين يتشربون تصور المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد عن “الإسلام المتعدد”، فهم يلبسون الساري، ويحملون القرآن، ويحتفلون بالأعياد الدينية الهندوسية، ويؤدون الصلاة على الطريقة الإسلامية. لكن معظم البنغاليين يشعرون بأن عليهم اعتناق الإيمان على الطريقة التي يتعرفون عليها في سفراتهم.
رداً على هذه المظاهر الواضحة على التهجين في بلدهم؛ فإن عدداً من الفنانين أخذوا يتصارعون مع قضايا الهوية الشخصية والوطنية، ومع أثر التفاعلات العالمية، ومن بينهم ثلاث فنانات: طيبة بيغوم ليبي من مواليد 1969، وديلارا بيغوم جولي من مواليد 1960، ونازيا عندليب بريما من مواليد 1974، اللواتي استكشفن تلك القضايا من خلال عدسات الجنس، ومن خلال استخدام وسائل الإعلام المختلفة والرسائل والمضمون، وقد تصدت كل واحدة منهن لما يعني أن تكون امرأة في بنغلاديش المتغيرة، والتي ما تزال تحتفظ – مع ذلك – بتقسيم الجنس بصورة محددة للغاية. ليبي، جولي، بريما؛ من بين مجموعة فنانات عالميات تضم: منى حاطوم، لالا إيسادي، شيرين نشأت، يوشيكو شيمادا، سوك نام يون، وغيرهن؛ يتناولن الروابط المتعددة كون الفرد امرأة في مرحلة ما بعد الاستعمار والعولمة.
طيبة بيغوم ليبي واحدة من أكثر الفنانين البنغاليين نشاطاً. ففي عام 2012 اقتنى متحف سولمون آر. غوغنهايم منحوتتها (سريرالحب)/ 2012؛ وهي إطار سرير مصنوعة من شفرات حلاقة، مما يجعلها واحدة من الفنانين البنغاليين القلائل الذين لهم عملاً في مجموعة دائمة لمتحف رئيسي عالمي. وهي حقيقة مهتمة أيضاً بخلق فرص للفنانين البنغاليين. في 2012 أسست ليبي مع زوجها الفنان ماهبوبر رحمان “Britto Arts Trust”، أول منظمة غير ربحية يديرها فنان في البلاد.
على حد سواء تأثرت أعمال كل من ليبي ورحمان عميقاً بهجمات 11 أيلول/ سبتمبر في نيويورك عام 2001، وبتفجير 7 تموز/ يوليو في لندن عام 2005، وبردة فعل الشعب البنغالي، وبكيفية تعامل العالم معهما فيما بعد كمسلمين بنغاليين. وهما يتذكران تجربة تعرضهما للتمييز العنصري في أوروبا قبل 2001 حين شاركا في الإقامات والمعارض وورش العمل. بعد ذلك زاد الضغط بشكل ملحوظ، إذ لاحظ الفنانان أن البنغاليين داخل الوطن وخارجه بدأوا فجأة بطرح السؤال عن هويتهم، كما بدأا يشعران بضرورة إعلان انتمائهما الديني. تقول ليبي: (يشعر الناس أن عليهم التمسك بهوية واحدة، وهكذا يرجعون إلى الدين).
واحدة من أكثر الردود الملموسة على هذه الدعوة المفاجئة للدين كانت التغيرات التي حدثت في اللباس، ومثل كل المسلمين في جميع أنحاء العالم بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر أصبح العديد من البنغاليين (مسلمين بشكل واضح) حسب تعبير البروفيسور إيما تارلو، أما بالنسبة للنساء فقد تجلى ذلك بازدياد شعبية الحجاب الذي بات والبرقع أكثر انتشاراً منذ عام 2001.
تركيب ليبي ورحمان المشترك (دمى تراقب دمى)/ 2002؛ الذي عرض لأول مرة عام 2002 في الرابطة الفرنسية في داكا؛ كان يتناول مظاهر الهوية التي تفرق بين الجنسين من خلال اللباس، وانتشار الشك والانتقاد بعد 11 أيلول/ سبتمبر في بنغلاديش. والتركيب مكون من قسمين، أحدهما يتألف من أربعة أشخاص بالحجم الطبيعي مع قوالب مصنوعة من الألياف الزجاجية البيضاء على شكل رأس ليبي، موضوعة على كراسٍ مصفوفة بشكل شبه دائرة، وكان كل شخص على كرسي مغطى ببرقع يواجه صورة ليبي ثلاثية الأبعاد المرسومة بالألوان الزيتي، فيما تظهر ليبي في لوحة على طول الجدار بشعرها المنسدل، وقد وضعت مكياجاً، وكشفت عن أحد كتفيها. صورتا ليبي تراقبان بعضهما بنظرة اتهام، وكل واحدة منهما تشكك بولاء وهوية ما يسميه إدوارد سعيد “الآخر”.
أما القسم الثاني من التركيب فيعلق على حفلات زفاف المسلمين في جنوب آسيا، وذلك بظهور الزوجين الحديثين لأول مرة أمام الأصدقاء والأقارب. حيث نصف درزن من الكراسي المغطاة ببراقع عليها وجه ليبي، وموضوعة أمام كرسيين مغطيين باللباس البنغالي التقليدي للعريس والعروس، ورأس ليبي على أحدهما، ورأس رحمان على الكرسي الآخر. يحدق العريس بانشداه إلى الأمام، وتنحني العروس المحجبة إلى الأمام، مشتتة نظرة الحشد لتشير إلى تحفظها وحشمتها، وخلفهما فيديو لبقرة يتم ذبحها. (هذا التركيب يشبه الزواج الذي تقوم العائلات تقليدياً بترتيبه في بنغلاديش لأبنائها الشباب والأطفال كذلك)، وتقليدياً القربان من البقر.
يدعو العمل للانتباه إلى حقيقة أنه عندما يجبر الأفراد على قواعد فئتهم الاجتماعية وهم صغار، فسوف تتم التضحية بمستقبلهم وبتطلعاتهم لصالح الشرف العائلي.
تستمر طقوس الزواج والعروض العائلية الاجتماعية الأخرى في افتتان ليبي وشد انتباهها، كما في فيديو (أزوّج نفسي لنفسي)/ 2010؛ الذي عرض في أول جناح لبنغلاديش في بينالي فينيسيا الـ54 عام 2011، والذي كانت ليبي شريكة في تنظيمه. ويبدو أن الفنانة تقدم حلاً لانقسامات الجنسين المشحونة، ولغياب صوت أولئك الذين يجبرون على ترتيب الزواج. مدة الفيديو ثلاث دقائق؛ وفيه تقدم الفنانة على قناة الاستعدادات للعرس كعروس، وعلى الأخرى كعريس، حيث تظهر رياضية بشعر قصير وبشاربين مستعارين، وينتهي الفيديو بزوجين يجلسان على كرسيين متجاورين فوق منصة، ينظر كل منهما إلى الآخر بحياء. وفي أداء الدورين تقدم ليبي مرونة جنسها، كما تتحدى في عمل كهذا التسلسل الهرمي لسردية جنوب آسيا، وتجنيسها في المؤسسات الدينية، والزواج، والعائلة.
قد تكون ليبي معروفة جيداً باستعمالها شفرات الحلاقة التي وظفتها في منحوتة موضوعات من الحياة اليومية النسوية، أي الحقائب، الأثواب، عربات الأطفال، أحواض الحمامات، وسرير الزوجية في عملها (سرير الحب).
تنحدر ليبي من عائلة كبيرة من الريف شمالي بنغلاديش، وهي تتذكر من طفولتها مشهداً لزوجة أخيها التي أنجبت ولداً في البيت بمساعدة داية قطعت الحبل السريري بشفرة تم تعقيمها بماء مغلي. تلك الحادثة ألهمت مخيلة ليبي، فالشفرة تذكرنا بفكرة فرويد عن “المشهد الأولي”، كما ترمز إلى وعيها للعالم من حولها وتشابك الحب والحياة الأسرية والألم. إن عمل (سرير الحب) المتقن، بسلاسله البراقة المصنوعة من الشفرات؛ يفضح هذه التناقضات في الحياة الريفية في بنغلاديش، فرغم جمالها وإغوائها، إلا أنها مصدر خطير للألم والموت للزوجة.
ويعتبر دبوس الأمان مادة أخرى لها رمزيتها في أعمال ليبي، وفيه تمثل الفنانة فكرة قوة الإرادة والعنف ضد النساء. تتذكر ليبي – مثل العديد من النساء وعبر شبه القارة – كيف كانت كطالبة جامعية في داكا تُلمس باستمرار في الأمكنة العامة المزدحمة، ومثل ما لا يحصى من نساء جنوب آسيا؛ تسلّحت بمشابك لتدافع عن ذاتها من الأيادي التي تحاول العبث. وكما في عملها (سرير الحب) يوجد تركيب الدبابيس (بيكيني مريح)/ 2013؛ الذي عرض لأول مرة في معرضها الفردي (لم أختبر الحميمية يوماً) في صالة “Pi Artworks” في استنبول المليء بالتناقضات. ويعرض العمل أربعة أنماط من البكيني الشبكية الدقيقة المكونة من دبابيس الأمان الذهبية المتدلية على حمالات، يستحضر الشكل المناطق الأكثر حميمية في الجسد الأنثوي، غير أنها مصنوعة من مواد حولتها إلى درع وتحذير لأولئك الذين يمكن أن يلمسوها من دون إذن.
من خلال استخدام المواد الرمزية، وإعادة تقييم دور الجنسين، والهجاء؛ تكشف أعمال ليبي الفنية التناقضات والضغوط الاجتماعية. وليبي لا تعتبر أنها فوق هذه الأخطاء، فهي ذاتها تحتل مكانة بارزة في أعمالها من خلال استخدام قوالب جسدها، وصورتها الشخصية، كما أن موادها مأخوذة من انعكاسات حياتها الشخصية، وقد قالت مؤكدة بشدة أثناء حديثها معي (أنتقد ذاتي أولاً، أنا جزء من البلد والثقافة التي أصفها في أعمالي).
بينما تأثرت نظرة ليبي للعالم وأعمالها بأحداث أيلول/ سبتمر 2011؛ فإن الأعمال الأولى للفنانة ديلارا بيغون جولي المقيمة في تشيتاغونغ تستجيب لوسط محلي ديني بيئي سياسي مختلف. بدأت جولي حياتها الفنية في بداية الثمانينيات خلال فترة حكم الديكتاتور العسكري حسين محمد إرشاد التي تميزت بوسائل الإعلام والرقابة وانحسار العلمانية بعد اعتماد الإسلام ديناً للدولة عام 1977. سنوات حكم إرشاد سمحت بمساحة صغيرة لعلاقة الفن مع الجنس والدين والسياسة، ومع ذلك؛ ومنذ تلك الفترة المضطربة سياسياً استمدت جولي أعمالها من الأدب والسياسة ووسائل الإعلام، ومن التزامها بالعدالة الاجتماعية، وبالتركيز على حقوق المرأة في بنغلاديش والعالم.
تسترشد أعمال جولي أيضاً بأهداف الجماعة الفنية “شوموي” المنحلّة، فكانت وزوجها دالي المأمون من مؤسسيها، وعلى مدار الثمانينيات فكر أعضاء شوموي باستلهام السياسات البنغالية والثقافات البصرية، وحاولوا الخروج من عباءة الميراث الفني الاستعماري والتمثيلية واللوحة التصويرية التي سادت الفن في العقود السابقة. كما كانت مصادر إلهام جولي عالمية، تشمل لويس بورجوا، فريدا كاهلو، جورجيا أوكيف، وجودي تشيكاغو. وفيديوات جولي وتركيباتها ولوحاتها وهي غالباً إكريليك على قماش؛ تتميز بالأسلوب السريالي، وتقوم بناء على وصف جودي تشيكاغو لذاتها، و"النظرة الداخلية النقدية للنسوية".
منذ التسعينيات استخدمت جولي فنها للرد على حالات الاعتداء على النساء المحلية والعالمية، وقد استضافت صالة مؤسسة البنغال للفنون الجميلة عام 2006 معرض لوحات جولي (زمن التنقيب) التي رسمتها بين عامي 2001 و2006، والعديد منها بمثابة انتقادات لاذعة لقيادة الولايات المتحدة الحرب على العراق وأفغانستان، كما تسلط الأعمال الضوء على من ترى الفنانة أنهم عانوا أكثر من غيرهم في هذه الصراعات، أي النساء.
وفي هذا النهج قدمت بداية الألفيتين لوحات (زمن التنقيب) الأحداث المأساوية من خلال لوحة ألوان مشرقة وبهيجة ومتناقضة، وبرمزية عضوية وغنية تحتفي بجسد المرأة وخصوبتها التي يتم إخمادها. في لوحة (بعد نهاية الزمان 3)/ 2006؛ تبدو أزهار خلابة رهيفة برتقالية نارية ضاربة نحو الحمرة وزرقاء، نتمعن لنرى أن رصاصات دمرت الأُسْدِية. وعلى القسم الأعلى من اللوحة تم تطويق علم العراق بشكل مبيض. تستخدم جولي المبايض والأرحام المكررة والنهود، بمعزل عن سياق الدقة التشريحية، أو موضوعات الإثارة من وجهة نظر الرجل، وكأشكال ناعمة وطرية وحانية تربط تلك الأعضاء وأصحابها في حالة النساء العراقيات بالعالم الطبيعي. والأصداء هنا تتأكد بين جسد المرأة والطبيعة من خلال البذور النابتة. وكما في العديد من لوحات جولي التي تحتج على الحرب؛ فإن الرسالة تسلّم من خلال خصبها ورمزية عضوها، أي أن الجيوش وأسلحتها تقتطع دورة الحياة.
سلسلة جولي الثانية (Tader Bola)/ 2008؛ تصور الأعضاء التناسلية النسوية كما لو أنها مغروزة في تطريزات القماش البنغالي. كانت جولي مثل طفلة تجلس مع قريباتها اللواتي يثرثرن، ويتشاركن تجاربهن وهن يطرزن – ومن هنا جاء عنوان هذه السلسلة – مفارقات الألم والحياة الأسرية، والتطريزات هي التي تربط الفنانة والنساء الأخريات بأسلافهن.
إن المنسوجات التي تصنعها النساء التقليديات تذكرنا بأعمال تشيكاغو في (حفلة العشاء)/ 1979، وتطريزات كانثا تزود جولي أيضاً بإلهام كمصادر غير أكاديمية أنتجتها النساء تاريخياً. تعيد جولي استحضار الغرز في عدة رسوم ولوحات مثل التي في (Tader Bola) من خلال الدقة والنقاط الموضوعة بانتظام والخطوط وشرطات الترقيم.
معرض (Tader Bola 4)/ 2008؛ هو تركيب من الأصفر المرهف والقرمز في تطريز مثير للذكريات، حيث المبيض مثل اللوتس الذي تتخلله رؤوس النساء وخرائط النسب الأمومي، كما تذكرنا بصلة اللوتس وعيون البذور المنبثقة من المبيض بالمشيمة. تستعير جولي من كانثا المجاز، بحيث تدل أزهار اللوتس على الخصوبة والتحمل، لأن اللوتس -كما هي معروفة – تنبثق من برك القرى، وتبقى على قيد الحياة في الفصل الجاف.
بعد حريق مصنع تازرين للأزياء عام 2012 الذي مات فيه أكثر من مائة عامل، وانهيار معمل رانا عام 2013 الذي قتل فيه أكثر من ألف؛ بدأت جولي تعالج أوضاع العمل المزرية في قطاع صناعة الملابس في بنغلاديش.
معرضها الفردي الأخير (Boyon Boyan) الذي استضافته استراحة فن البنغال عام 2014؛ ضم نصباً تذكارياً لوسائل الاتصال المتعددة من أجل ضحايا الكارثة الذين كانت أغلبيتهم من النساء الشابات، وقد عرضت جولي في كل أنحاء المعرض ملصقات صنعها أفراد عائلات وأقرباء الضخايا الذين قضوا في الكارثة، وبدل لوحة الألوان النابضة بالحياة التي استخدمتها في أعمالها السابقة؛ استخدمت جولي في(Boyon Boyan) لوناً أحادياً بالقلم، ورسومات الحبر المقدمة بخطوط مرهفة دقيقة. وفي إحدى الرسومات (Bayana 2)/ 2014؛ تعرض امرأة أماً أو أختاً أو زوجة؛ ترتبط دموعها بصورة أحد المفقودين في الملصق الموضوع على قميص، وذلك في إشارة إلى المصنع وإلى الصناعة الذي فقد الشاب الصغير حياته من أجلها.
ذهب معرض جولي (Boyon Boyan) إلى أبعد من تسليط الضوء على محنة ضحايا تازرين للأزياء ورانا بلازا، حيث ألقت اللوم بشكل مباشر على المآسي، وطالبت بتحقيق العدالة، وفي وسط الصالة وضعت جولي طاولة لضيوف الشرف أو العار بالأحرى، أي مالكو المعملين الذين كانوا سيستقبلون بصحون الراتنج التي غرست فيها أجزاء قطع من ممتلكات الضحايا التي جمعتها جولي من رانا بلازا، أي خصل شعر وأمشاط وبطاقات هوية وتقارير مخبر حمض نووي لتحديد هوية الجثامين، وكان هدفها هو مواجهة المذنبين، والمطالبة بمساءلتهم، والاعتراف بضحياهم فرداً فرداً.
كانت مهمة جولي خلال ما يقارب ثلاثة عقود طويلة التفكير بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، وفي الآونة الأخيرة المساواة في العمل، وعلى الرغم من المأساة إلا أن موضوعاتها غالباً ما تبعث على الأمل، والإرادة للمطالبة بالتغيير.
نازيا عندليب بريما حالة شاذة في الدوائر الاجتماعية والفنية في داكا، وفي مكانتها كفنانة ومديرة مبدعة لمنظمة التسويق المحلي؛ تتشابك هويتها وفنها وعبثها مع فضول الناس حول قصص النجاح. نازيا غير متزوجة، وتظهر في أحايين كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي كتالوغات معارضها وهي تتباهى بتدخين سيجارة، أو بشرب كوكتيل غير مسموح به للمسلمين في بنغلاديش، وبينما يقوم العديد من المثقفين ونساء الطبقة العليا من نساء بنغلاديش بمثل هذا السلوك الذي “لا يليق بالمرأة”؛ فإن بريما من بين القليلات اللواتي يفعلن ذلك علناً. أعمالها الفنية هي في آن واحد ترف في شهوانيتها الإبداعية، ورد على إدانات مجتمعها لأسلوب حياتها، وقد قالت: (حياتي مصدر وحي فني). مثل هذه الحرية لا يمكن التمتع بها في بنغلاديش من دون عواقب شخصية ومهنية، فكانت بريما موضوعاً للنقد في مجتمع داكا بسبب أسلوب حياتها غير التقليدي، كما خضعت بعض أعمالها للرقابة نظراً لمحتواها الذي اعتبر غير لائق.
تتفحص بريما مظاهر الأنوثة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وتزايد العولمة في بنغلاديش، وفي معرضها الفردي الأول (Staring Women) في صالة بنغال للفنون الجميلة عام 2010؛ كانت أكثر لوحاتها شهرة خليطاً من صور وسائل الإعلام لنساء شابات واسعات العيون، يتمعن بقوة بالمتفرجين. فلوحة (عيناي الاثنتين) الرائعة المرسومة بالأحمر والأبيض والأسود؛ تعرض امراتين مسدلتي الشعر، كناية عن الإغراء والجنسانية في فن جنوب آسيا، وهما تلفتان نظر المشاهد ببرود. عينان مدختنان مكحلتان من دون وجوه تثقبان قماش اللوحة.
الفنانة التي ترفض أن تكون موضوعاً سلبياً لنظرة الذكر أو لإظهار حشمة؛ تقدم النساء في لوحاتها بصراحة وهن يراقبن مشاهديهن من الذكور، ويتمتعن في ذات الوقت بقدرتهن على الإسعاد بالنظر، ليقمن بذلك بقلب معنى المشهد المغري رأساً على عقب. كان عنوان اللوحة غامضاً ومرحاً، فهل كانت الفنانة في آن معاً تعرض ذاتها لنظرة الذكر، وترد على تحديق حكم المجتمع؟
مثل ليبي يعتبر البرقع بالنسبة لبريما تعبيراً مجازياً للمحافظة التي تتزايد في البلاد، فيما الموضة الغربية وكل البضائع التجارية متاحة أيضاً وبسهولة في بنغلاديش، فهم يقدمون علمانية مترفة، وكذلك وسائل للنساء المحجبات ليعبرن عن ذواتهن، على الأقل في حياتهن الخاصة.
تستكشف بريما في الكثير من اللوحات العالم الهجين بالنسبة للعديد من نساء الطبقات العليا في بنغلاديش، وفي لوحتها ذات الإيقاع الحزين على القماش (الرغبة)/ 2008- 2009؛ تقدم بريما وجهاً نصف محجّب، بعينين هما شبكة من الأعصاب المحمرة، مشيرة إلى الغضب السري أو الأسى، وبدل النظر إلى المشاهد؛ فإن تحديق العينين هنا يجتاز المشاهد بوضوح إلى موضوع رغبتهما/ فرصة أم شخصاً أم قطعة للبيع؟ وتتجاهلا وجودنا.
وجه آخر بلا حجاب يشارك المشاهد نظرته، بابتسامة غنج من خلال أحمر الشفاه، وفي مركز فم الشخص حذاء مثقب يتوازن بلا استقرار على اللوتس. إن نساء بريما المحدقات يشغلن عالماً تلوّن بالحشمة والرغبة والموضة العالية والاستهلاك.
؛ التي وضعت عنوانها بعد أن أصبحت المجلات النسائية تعرض الجنس والمواعدات والأزياء والمشورة المهنية. وتعرض اللوحة مستويات متناقضة للضوء والألوان الأساسية والأسود، مثيرة ذكريات توتر موضوعها. وفي الوسط عارضات أزياء يظهرن مستهترات مقطوعات من صفحات مجلة كوزمو، يتبخترن نحو صف من النساء المبرقعات، ووجوههن نصف مظللة في المقدمة. إحدى النسوة تواجه نظرنا ورأسها مغطى بالحجاب، لكن يداها مكشوفتان، وكأن التحول قد بدأ. تحمل المرأة بيدها وردة رمزاً للعاطفة والحشمة المضطرة للحفاظ عليهما. وعينا الشخصية واسعتان، وأحد حاجبيها مزود بجهاز إنذار.
ما الذي سيحصل عندما يتواجه العالمان؟
الفنانة معروفة أيضاً في دوائر معينة بلوحاتها التي تصور نساء عاريات. ففي عام 2012 تقطّعت السبل ببريما في غرفة فندقها في باريس في يوم ماطر، وهناك أنتجت مجموعة رسومات تصور بشكل استفزازي نساء عاريات، والعديد منها كانت مصدر إحياء للوحات زيتية فيما بعد. عمل الفنانة ذو اللون الرمادي المرهف والأسود واللون الضارب نحو الحمرة (Objectified)/ 2012؛ يذكرنا بعمل غوستاف غوربيه (L’Origine du Monde)/ 1866؛ الذي يعرض القسم الأسفل لامرأة مستلقية ساقاها متباعدتان. قصة اللوحة الأصلية المعروفة فيها دلع وإيحائية دعوبة تترك المشاهد يستغرب، فهل كانت الفنانة وحدها في غرفة الفندق؟
تتخيل بريما أيضاً مواجهة بين عالمين في لوحة (Cosmopolitan)/ 2008
لأنها بالتأكيد هي صورة لذاتها؛ فقد التزمت بريما الصمت بغنج حول هذه المسألة، ومع ذلك العنوان غير غامض. تأخذ بريما زمام الأمور وتعرض ذاتها موضوعاً للاستهلاك البصري، وقد عرضت اللوحة والعديد من الرسومات في استراحة فن البنغال عام 2013، لكن تم سحبها مباشرة بسبب غضب الجمهور. ومع أن الموضوع غير مألوف في فن بنغلاديش؛ إلا أن العراة من الجنسين الذين يشاركون فيما يشبه نشاطاً رياضياً وأعضاؤهم الجنسية غامضة وغير واضحة؛ هم في لوحات شَهبودين أحمد الفنان الأكثر نجاحاً تجارياً في بنغلاديش. لكن ربما جاءت ردة الفعل لأن عاريات بريما يعرضن بشكل يغوي بوضوح نظرة الذكر، ولأن امرأة هي التي رسمت، وظل الفنانون البنغاليون إلى حد كبير من أكثر نقادها حماسة.
ليست موضوعات بريما وحدها مثيرة للجدل، فوضع المرأة في جميع أرجاء جنوب آسيا كزوجة وأم مصدر لطاقتها الثقافية، ودائماً هي أول الأسئلة التي تهال على رأسها أيضاً، وفي الرد على تلك الأسئلة التي تسمعها في كل مكان، وعلى التحذيرات الصادرة عن حسن نية من أهلها وأصدقائها حول خصوبتها التي تتناقص وهي تقترب من ثلاثينيات عمرها؛ فقد قامت الفنانة بتمثيل أداء في فيديو (تزوج بيضتي)/ 2011؛ فتظهر في فيديو مدته ثلاث دقائق تقريباً بالتسلسل كعروس بنغالية، وكزوجة محجبة تأكل درازن من البيض المقلي، حيث تريد تثبيت نظرة المشاهد عليها وهي تستهلك "بيضها"، ورفض دورها في التوليد، لتعتنق بريما هوية مستقلة متجاوزة تعريفات بنغلاديش للأنوثة.
إن خيارات بريما الشخصية والفنية قادت إلى إدانتها في الدوائر الاجتماعية في داكا، وخصوصاً من النساء. وفي إحدى المرات التي كان لها ضجيجها الإعلامي؛ انتهى الأمر بفرض رقابة على أعمالها الفنية، ومع ذلك فإن قيمة أعمالها – بالنسبة للعديدين من جامعي أعمالها – تكمن بالضبط في خصوصيتها كمبدعة، فالمخاطر المعدودة التي قامت بها هي التي عادت عليها بالإشادة على نطاق واسع في الدوائر المحترفة، حيث تقدم بريما بدائل جريئة في حياتها وفنها للفنانات البنغاليت الأخريات، وربما كان في اختياراتها طريقاً ممكنة فقط للثريات المستقلات اللواتي هن مثلها، لا يعتمدن علي بيع أعمالهن الفنية، وكذلك للواتي يتجاهلن همسات الثرثرة والنقد الفني.
إن طيبة بيغون ليبي، وديلارا بيغون جولي، ونازيا عندليب بريما؛ اخترن المضمون الجريء، ورسالة أعمالهن الفنية، وقد دفعن الأعراف الاجتماعية بما يكفي لأن تكون استفزازية، كما حققن الاستماع إلى أصواتهن – كما بالنسبة لعاريات بريما – حتى لو تم قمعهن بسرعة. فكل فنانة تتفحص التوترات بين أدوار التجنيس المقيدة، والوقائع اليومية المعتادة للنساء البنغاليات من خلال لغتها البصرية الخاصة الفريدة للرموز، والمراجع الثقافية. فمجمل أعمالهن تسلط الضوء على التوتر بين الحداثة والتقليد، والعولمة والمحلية، والإيمان والعلمانية، وعلى كيف تتقاطع هذه التوترات في التجنيس في بنغلاديش هذه الأيام. ومثلما تحاول عدة أعمال لهن إظهار هذه القضايا؛ فإن تلك القضايا قد تعطي فرصة لظهور الريبة، والافتقار لمعرفة النفس، والقيود القمعية.
الفنانات الثلاث في أعمالهن وحيواتهن أمثلة تحث على القوة والإبداع والشجاعة والإلهام، فكل واحدة منهن تتمتع باعتراف وطني وعالمي بدرجات مختلفة، حيث بإمكان فنهن التحدث لجمهور كبير عن مجتمعهن وعن النساء اللواتي يعشن فيه، وعن إمكانيات أكبر لكل منهن.