خلال ساعة ذروة الازدحام الصباحي في لندن، حيث يحتشد الركاب على أرصفة محطة القطار، ويتدفقون نحو وسط المدينة؛ اتجهت بالضبط في الاتجاه المعاكس، قاصداً جهة الضاحية الجنوبية الغربية الهادئة من بارينز، المكان الذي يقع فيه مرسم شيرازه هوشياري. مكان فيه محمية طبيعية، بدل الخراب ما بعد الصناعي الذي يرتبط غالباً بمراسم الفنانين.
إن تجاوز بارينز للمدينة والطبيعة يناسب بشكل غريب الفنانة التي تقدم تجريدات عبر وسائل الإعلام مكثفة ومهدئة في آن واحد، وتقترح شيئاً هو ما وراء المقاييس الحضرية النموذجية.
ولدت هوشياري عام 1955 في شيراز، المدينة الرئيسة في جنوب غرب إيران، والتي يرتبط اسمها تقليدياً بالفن والأدب. جاءت إلى لندن عام 1974، وأقامت في أحياء مختلفة قبل أن تستقر عام 2008 في مرسمها الحالي.
حتى المترحل يحتاج إلى بيت يسكن فيه، ويمكن أن نجد هوشياري في حي سكني هادئ في مبنى قرميدي رطب، حيث تشارك بمرسمها زوجها بيب هورن الذي يمتهن الهندسة المعمارية، وفي أكثر من ثلاثة طوابق تنتشر أعمالها منظمة بحسب أنواعها، فقد أبدعت الفيديوهات والتركيبات في قبو صغير، وصنعت منحوتاتها مع مساعد خلال ورشة عمل صغيرة في الطابق الأرضي، وأبدعت لوحاتها التفصيلية في طابق تهويته جيدة، وسقفه عالي.
في الثمانينيات جذبت خريجة كلية تشيلسي الانتباه إليها لأول مرة على نطاق واسع بتماثيلها، وتم الاحتفال مؤخراً بمشاريعها، مثل تركيبها المرح والمعدّ ليكون تركيباً دائماً له زجاج وفولاذ محفوران بشكل صليب (النافذة الشرقية)/ 2008؛ لكنيسة القديس مارتن في لندن، وتركيبها المكون من فيديو بأربع قنوات بعنوان (نفس)/ 2003؛ الذي وضع إلى جانب مصلين منشدين من الديانات الرئيسة في العالم.
إن ترشيحها لجائزة تيرنر عام 1994 عن تركيبها (Enclosure of Sanctity)/ 1992 – 1993، و (Licit Shadow)/ 1993؛ قدمها كفنانة إيرانية، لكن عملها لم يعتبر محدداً باتنماءات إلى أي قومية. تقول: (أنا في الحقيقة لندنية. عشت هنا معظم حياتي). تبتسم وهي تشاطر حبها لعاصمة إنكلترا قبل أن تضيف: (بصراحة تامة أريد أن أكون مترحلة).
البناء اكتشفه هوم، وجدده الزوجان للسماح للمكان المحيط بأن يكون جزءاً من البيت عبر منور السقف الزجاجي، والنوافذ الكبيرة في الجدار الخلفي لمرسم هوشياري، والتي تطل على منطقة غابات هادئة.
تقول هوشياري: (لا يوجد هنا فنانون كثيرون)، فيما ينعكس ظل سحابة وبقع من أشعة الشمس المتراقصة على لوحاتها. والفنانة الصغيرة الجسم والأنيقة؛ ترتدي ثياباً بألوان تعكس صدى ألوان أعمالها الهادئة، وهي متحمسة لقرب بارنيز من لندن ولحدائقها ولجمال المشي يومياً على ضفاف التايمز، وتغدو أكثر انتعاشاً وهي تناقش أعمالها. تقول هوشياري وهي تضحك: (لدي هاجس، وهذا الهاجس قوي للغاية، وهو مفيد جداً، لكنك لا تريد حياة أخرى، لأن ذلك ليس جيداً)، وذلك بعد أن تتذكر اللحظات التي كانت تضطر فيها للخروج من المرسم نهاية يوم عمل.
من السهل ملاحظة انهماك هوشياري بعملها، فلوحاتها ذات أحجام كبيرة، حجم معظمها أكثر من متر طولاً وعرضأ، وتستغرق اللوحة لإنهائها عملاً يومياً مدة شهرين. تقول هوشياري وهي تتنهد: (لا أحد يدرك كم هو منهك هذا العمل)، هي ترسم على قماش موضوع على الأرض، تصب الصباغ عليه أولاً، ثم تبدأ.
على مكتبها توجد مبارٍ وبقايا بري أقلام الرصاص، ما يدل على العمل المضني في كل جزء من أجزاء اللوحة. لوحة (Soar)/ 2015 ؛ بطول وعرض مترين، مطلية ببقع زرقاء تشبه الغيمة، وستيم إرسال هذه اللوحة إلى هونغ كونغ للمشاركة في المعرض القادم في فرع صالة "Lehmann Maupin ". هوشياري توضح أن نسيج اللوحة جاء من تكرار كتابة جملتين باللغة العربية (أنا موجود) و (أنا لست موجوداً)، إلى ان تتلاشيا في قماش اللوحة. والشكل الذي تم إبداعه من الكلمات يشبه درعاً بدقته وتجريديته؛ أكثر مما يشبه نصاً. تقول الفنانة: (هذه الكلمات ليست لتقول معنى، لأنها في الواقع تذوب، وأنت لا تستطيع قراءتها، لكنها تقول الكثير حول… التناقض بين أنا موجود، وأنا لست موجوداً، مثل التنفس). وتقول: (أقلد بطريقة ما عمليتي الشهيق والزفير، وهذا هو السبب في أنهما ينبضان مثل قوة توليدية).
متأثرين بالشعور الأثيري الذي تستحضره هوشياري من خلال هذه اللوحات، وبحلزونية الشكل وتصاعده لمنحوتاتها الزجاجية والمعدنية؛ يميل الذين يكتبون عنها لاستخدام كلمات مثل “الروحاني” و"المتعالي" عند وصف عملها، وهي تندب قائلة: (مثل تلك الأوصاف التي أصبحت عادية جداً الآن). وتضيف: (إن أعمالي هي في الواقع مادية للغاية، وأنا مهتمة جداً بأحاسيسنا، وببصرنا، وبسمعنا، وكل واحد منا في جسم … هو في الواقع مادي جداً. أنا لست موجودة).
في أعمال هوشياري توجد خاصية غير ملموسة لا يمكن إنكارها، والتي تصل إلى ما وراء تجربتنا اليومية، فنطاق إلهامها أوسع بكثير من الأفكار الاختزالية عن الروحانية. وتقشف الجدران البيضاء للطابق العلوي من الاستديو تقابله أكداس من الكتب المتناثرة عشوائياً في الزاوية، تتدرج من دواوين من الشعر الصيني القديم، إلى مجلد الرسم لمؤلفه الفنان الباروكي الإسباني فرانسيسكو ديثارباران. تقول هوشياري: (قضيت عمري في البحث عن الأشياء ومحاولة الفهم، أنا لست مجرد مفتونة بصناعة الفن، لكني أيضاً مفتونة بالطبيعة والعلم). حكت هوشياري وهي تبحث عن بطاقة بريدية لفنان عصر النهضة بييرو ديلا فرانسيسكاديلبارتو (1450- 1475) كم كانت متأثرة عندما رأت اللوحة في إيطاليا. (إنها ما تزال تهز … وفيه الكثير من الحنان). اللوحات الأوروبية ذات الموضوع الديني ربما تشكل نقطة مرجعية محتملة لأعمال هوشياري غير الرمزية، وكما تشرح فإنها تحاول الانتقال إلى ما وراء “سردية” الفن التقليدي، في حين تحافظ على “الألوان والبناء”، واللمسات الإنسانية التي تمنحها صدى عاطفياً.
بطريقة مماثلة تستمتد هوشياري منحوتاتها من تأثيرات متبانية، بدءاً من تكوين إلهامها، وانتهاء بالمواد المستخدمة. والدوران الحلزوني في عملها (الجريان) /2013؛ الذي يصل إلى مستوى نظر المشاهد مستوحى من الخطوط العريضة لإسقاط عشوائي لرباط مطاطي، ويتكون التمثال من القرميد الزجاجي المؤكسد المصنوع في إيطاليا.
هوشياري كانت قد استعملت سابقاً كتل ألمنيوم في أعمال مشابهة، حيث كانت تختبر التدرجات الدقيقة والمتنوعة الممكنة في الزجاج الملون بالأزرق والأرجواني، على الرغم من أن رمزية جوهر القرميد بقيت ثابتة. تقول هوشياري: (هذه كائنات بشرية)، وهي ترفع قطعة قرميد زرقاء لامعة طولها 10 سم، وعرضها 4 سم تقريباً. (لقد أبدعنا مأوى بقرميدات البناء هذه. تماماً كما لو أننا أبدعنا معنى من الكلمات).
في عالم هوشياري الإبداعي تظهر الموسيقى أيضاً، فقد كانت تنبعث الألحان الكلاسيكية بنعومة من مكبرات الصوت في غرفة رسمها ونحن ننزل إلى القبو. أخرجت نموذجاً مصغراً لتمثال (وتر)/ 2014؛ الذي تأمل أن يتحول في نهاية المطاف إلى تركيب عام ارتفاعه حوالي 12 متراً. هناك توجد نسخة أصغر اسمها أيضاً (وتر)/ 2015؛ وقد عرض هذا العمل مطلع هذا العام في صالة ليسون في لندن، والتي قدمت معارضها بانتظام منذ استضافة معرضها الفردي الأول عام 1984. والعمل عبارة عن 5 شرائط معدنية معدنية داكنة، تتشابك وهي موجهة إلى الأعلى، تقول: (إن دور الوتر الأساسي في الموسيقى والطريقة التي تصدر فيها الأصوات هي في الواقع عشوائية تماماً).
كانت تشغّل جهاز العرض لتظهر كيف يمكن للأضواء المتحركة أن تجعل من عملها (وتر) مناسباً لأعمال مشتركة تعاونية مع الفنانين والراقصين والموسيقيين، ولتناقش هوشياري دور التكنولوجيا في أعمالها.
على مكتبها كمبيوتر موجود بين كتب وبطاقات بريد وتجارب صغيرة على ورق، ورغم أنها تتجه بعيداً عن بريق التكنولوجيا العالية الدقة في المنتج النهائي؛ إلا أنها لا تستهجن استعمال برامج تصميم الكومبيوتر، أو استعمال طابعة 3D لنموذج قطع جديدة.
عندما التقيت بها؛ كانت هوشياري تتحضر لإقامتها في أيلول/ سبتمبر في مؤسسة الطباعة تايلر في سنغافورة، كانت تحدد خطها على الورق مع نص بلغات مختلفة للرد على مكياج مدينة متعددة الثقافات، وتضع ما تجمعه في صناديق مقواة، لتشير إلى احتكار شاشات الكمبيوتر المطلق للاتصالات وهي تقول: (إذا كنت تأخذ من التكنولوجيا، فهي مجرد أداة، وما يجعلنا بشراً هو الشعور، وإذا كانت لديك تلك النوعية… فأنت تستطيع استعمال الأداة).
بصورة ملائمة تمكنت هوشياري من القبض على ما يميز الإنسان بوضوح من خلال وسائل مختلفة، بدءاً من قماش تغطية الجدران، إلى التماثيل الكبيرة وتركيبات الفيديو، مبدعة اتصالاً حقيقياً من خلال أعمال متقنة وحساسة بنيت على أشكال وخبرات مشتركة.