على الرغم من تحولاته الفنية العديدة؛ فقد نجح الفنان كوون يونغ وو (1928 – 2013 ) في إصدار عدد من الاستجابات المتشابهة خلال مسيرته على مدى ستة عقود. عرض الفنان الشاب في المعرض الوطني عام 1954 في بلده كوريا الجنوبية مع مجموعة من الرسامين بالحبر الذين وصفوا في الجريدة اليومية كيونيانغ شنمون بأنهم (الرسامين الطليعيين في الرسم الشرقي)، وقد رأى النقاد في الأعمال ميلاً نحو أشكال نحتية شبه مجردة، كما في (استيديو النحات)/ 1954، وأعمال حبر على ورق لغرفة مكتظة بالحوامل، ونصف منتهية.
بعد أكثر من أربعين عاماً عندما منح كوون جائزة فنان العام (1998) في المتحف الوطني الكوري للفن الحديث والمعاصر؛ قدمه القيّم جونمو جانغ مرة ثانية كرسام للفن الحديث، وكفنان حوّل (مفاهيم جمالنا التقليدي التي بدت كأنها قد كسدت… إلى تقليد يتقدم باستمرار). ومع ذلك فإن الأعمال التي رافقت المعرض كانت تشبه إلى حدّ ما أعمال كوون في الخمسينيات.
كان المتحف الوطني بالكامل أبيض اللون من أجل هذا المعرض، وقد علقت على الجدران أعمالاً كبيرة للغاية تتكون من موضوعات عادية، أي حمالات ملابس، أظافر، لوحات رخص سيارات مرتبة بأناقة على أسطح منبسطة، ومكسية بأضواء مشرقة، وطبقات بيضاء من ورق التوت، وفي الخارج كانت هناك تماثيل مصنوعة من زجاجات النبيذ الفارغة المصنوع من الأرز، مكدسة على نحو كثيف لتشكل كتلاً بيضاء شفافة.
يمثل كوون في سيرته الفنية توازناً نادراً بين التقليدية والطليعية، مطوراً أسلوباً يجسد موضوعات الهوية الوطنية والتمزق والاستمرارية، تلك الموضوعات التي كانت بمثابة نقاط اتصال لعالم الفن الكوري منذ أوائل القرن العشرين. وقد ذهب كوون إلى أبعد من مجرد تمثيل التقاليد الآسيوية مع الحساسية الحديثة، حيث تسعى أعماله لإلغاء التمييز بين الشرق والغرب، كما بيّن أجناس الفن المختلفة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على بعض القيم الجمالية. إن تطوره عبر عقود قاد إلى معرض كله أبيض في المتحف الوطني الذي يمكن أن ينظر إليه كامتداد لنوع فلسفته حول التقليد، مبتدئا كممثل للرسم بالحبر، ثم إزالة التمثيل منهجياً، وبعدئذ الحبر ذاته، ويقترح كوون في عمله التوسط، وفي حالته الورق كمصدر أولي لتأسيس القيمة.
هذا الابتكار يمكن أيضاً أن يضع كوون كشخصية بارزة في فن "دانسيكهوا"؛ حركة اللوحة بلون واحد، والتي انطلقت في كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي، واستمر تأثيرها الذي يمكن رؤيته في العديد من المعارض المكرسة في الولايات المتحدة، وأوروبا خلال الأعوام الثلاث الماضية.
بدأ كوون حياته المهنية في وقت كانت تسود فيه تقاليد التمثيل البصري، وخاصة دلالاتها على الهوية الوطنية. فقد انتهى استعمار اليابان لكوريا عام 1945، وتأسست جامعة سيول الوطنية عام 1946، وفي السنة التالية، وهو في عمر الـ21 غادر منزل عائلته في يانجيو ليبدأ دراساته في الجامعة. سجل في قسم الرسم الشرقي الذي يوجد إلى جانب برنامج الرسم الغربي أي الرسم بالألوان على القماش. كان الأساتذة والطلبة في قسم الرسم الشرقي يواجهون مهمة صعبة في إعادة تأسيس معايير للرسم الكوري تتميز عن الأساليب المطورة تحت حكم الاستعمار الياباني، لكن من دون العودة إلى الاهتمامات التي ميزت طرق الفن الصيني التقليدية.
كان تشانغ وو سونغ (1912 – 2005) أحد أساتذة كوون، وهو من الفنانين الذين تحولوا عن الأساليب الأكاديمية اليابانية نحو شكل من الغنائية الرعوية، وذلك بحثاً عن موضوع كوري فريد، وقد أنتج أعمالاً مثل (القطيع العائد)/ 1935؛ والعمل رسم على الحرير لصبي يقود بقرة في الحقل. في تكوين تشانغ هذا، ورمزية أسلوبه الناضج؛ يدفع الحيوان والصبي إلى مستوى اللوحة، ويتقدمان مع التفاصيل الدقيقة التي تلفت الانتباه إلى حذاء الصبي المصنوع من القش، وثيابه البسيطة البيضاء، وعناصر أخرى تؤكد على المشهد اليومي المتواضع، المختلف تماماً عن أسلوب الرسم الياباني الذي يتميز بلغته التصويرية العالية.
وباعتباره طالباً عند تشانغ؛ أخذ كوون على عاتقه مهمة إعادة إبداع الرسم الشرقي من زاوية أخرى، متطلعاً إلى الخارج نحو أجناسٍ وطرق التمثيل للمضي إلى الأمام. من دون أن يتخلى عن وسطيته؛ بدأ كوون بالنظر إلى التكنيك الغربي في صناعة الفن. وعمله الذي ذكرناه فيما تقدم (استوديو النحات) هو واحد من أعماله المبكرة التي أبدعها عام 1954، حينما كان يكمل دراسة الماجستير في جامعة سيول الوطنية، مستعملاً فيه خطوط الغرافيك للرسم بالحبر، ليصور الداخل الذي يشير إلى تطورات النحت الأوروبي الحديث، فالأشكال في القاعة وبدرجات مختلفة من الاكتمال تشبه أعمال فنانين من أمثال كونستانتين برانكوسي، أو هنري مور. وعلاوة على ذلك؛ فإن خطوط الكراسي والحوامل والنوافذ تؤكد المخطط المنظوري الجامد للوحة، وهي إستراتيجية غربية للتصوير بالنسبة لمعلمي كوون، وتعتبر دخيلة لا مكان لها في لوحة الحبر.
وبينما كانت مقاربة كوون لإنعاش التقاليد في الرسم الشرقي مختلفة عن أساتذته، فقد كان عمله على صلة مع العديد من الأسئلة التي هي ذات أسئلتهم، أي ماذا يعني أن تعمل فيما يسمى التقليدية المتوسطة بعد فترة من حكم الاستعمار حيث تم تدمير التقاليد وتلفيقها أو إفسادها بالاستيلاء عليها؟ وهل يمكن للمرء أن يحقق قطيعة مع الماضي المضطرب، وفي ذات الوقت يحافظ على مجموعة من القيم المتماسكة؟
أخذت هذه الأسئلة معنى جديداً في الخمسينيات عندما واجهت كوريا مرة ثانية أزمة الهوية التي انشطرت بسبب الانقسام الإيديولوجي الذي قاد إلى الحرب الكورية (1950 – 1953). وبينما توقف معظم الفنانين عن الرسم، أو غادروا كوريا خلال ذلك الوقت؛ فقد استطاع كوون مع بعض زملائه الاستمرار في مزاولة الرسم.
كان عميد قسم الفنون في جامعة سيول الوطنية على علاقة ودية مع رئيس القوات الجوية، وهما مع عدد من الدكاترة أسسوا أكاديمية الفنون العسكرية التي دعمت أعضاءها كي يستمروا في العمل كفنانين في زمن الحرب.
لوحة (ما بعد القصف)/ 1957؛ تعتمد على اسكيتش رسمه كوون خلال الحرب، وهي تحقق الهدف الذي تتوخاه المنظمة للدلالة على حال البلد في زمن الحرب.
البقايا المحترقة من محطة يونغسان في سيول التي قصفت ساحتها القوات الأمريكية عام 1950 لإبطاء تقدم جيش كوريا الشمالية؛ يمكن أن تُرى مصورةً باللون الرمادي الخفيف المغسول للحبر في الخلفية. القطع الأفقية في الجزء الثالث الأعلى من الورقة هي بقايا عربة قاطرة بالحبر الأسود، والدعامات المعدنية الملوية والحطام من المشهد السوريالي، والتطبيقات الكثيفة للحبر التي جاءت بتقنية مماثلة لتقنية تماثيل الاستديو؛ أعطت العمل ثقلاً مادياً. ومثل عمل (القطيع العائد) لأستاذه؛ جمع كوون في (ما بعد القصف) بين الأساليب التقليدية للرسم الآسيوي، والموضوع المتناول، لكن من دون جعله مثالياً. وفي حين تعرب لوحة (القطيع العائد) عن الحنين للماضي الزراعي، فإن لوحة (ما بعد القصف) موجودة بقوة في الحاضر. وهذا الوجود في الحاضر تؤكده فورية الحبر على الورق كوسيط، حيث تدون الورقة إيماءات كوون وحركة فرشاته، وكأنها توثيق لطريقة الفنان الخاصة في استيعاب مشاهد الحرب.
نمت سمعة كوون كفنان حبر متقدم خلال الستينيات، أي مع ظهور أعماله بانتظام في المعرض الوطني السنوي. هناك كان العديد من الفنانين الكوريين الآخرين الذين يعتمدون النهج التجريبي بالحبر آنذاك، وكان أكثرهم تميزاً سو سي أوك (والد الفنان المعاصر دو – هو سو) الذي أسس “إنك غروب فورست” في عام 1959، وهم جماعة من الرسامين المهتمين بتخليص الرسم بالحبر من دلالاته التقليدية لاستكشاف قدرته على التجريد.
قاوم كوان الانضمام لهذه المجموعة، ومع ذلك شارك عام 1962 ببعض أعماله في المعرض الوطني، وبدا ذلك إعلاناً عن انفصاله عن الحبر تماماً، زكانت أعماله تلك عبارة عن أوراق غير مزخرفة وممزقة ومنفصلة ومخدوشة بأظافر الفنان. لم يضع كوان عنواناً لهذه الأعمال، وهذا قرار استمر فيه منذ ذلك الوقت، وبدل العناوين وضع للوحات أرقاماً ترتيبية تستند إلى العام الذي أنجز فيه العمل.
طور كوون في سنوات عديدة لاحقة تقنيته في العمل بالورق على الورق، وأثار ردوداً نقدية قوية في عام 1966 عندما قام بمعرض فردي لهذه الأعمال في صالة دانسيكهوا في سيول. الأعمال كانت تتكون ببساطة من ورق أبيض ملصق على لوحات بنية اللون، مستعملاً فقط لغة تجريدية صارمة كثيراً. فعمله (1965/9)/ 1965؛على سبيل المثال ذو تصميم بسيط، يتكون سطحه من مربعات فردية من ورق الأرز التي تتداخل لتكوّن شبكة. كانت المربعات مرتبة بطريقة تؤكد على شفافية ورق الأرز، وليونتها، وبعض مناطق الشبكة تتكون من طبقات متعددة لتظهر أكثر إبهاماً، فيما المناطق الأخرى ممزقة ومفتوحة تكشف عن الطبقة الموجودة تحتها.
مثل هذه الأعمال دفعت حدود ما كان مجتمع الفن الكوري يرغب باعتباره “رسما آسيوياً”، لكن كوون تجاهل مسألة الهوية الوطنية والأسلوب الفني. وقال فيما بعد للصحيفة الكورية اليومية “تشوسن ليبو” عام 1977، (لا فناناً شرقياً، ولا غربياً)، وأشار إلى أعماله ببساطة مثل (لوحات بيضاء).
الولع بالأبيض الذي ظهر في أعمال كوون منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات كان ينظر له كمؤشر لتوجه أكبر في الفن الكوري آنذاك، حيث أصبح يعرف باسم حركة “دانسيكهوا”. في عام 1975 شاركت أعمال كوون في (خمسة فنانين كوريين، خمسة أنواع من الأبيض) وهو معرض كله بالأبيض، بلوحات أحادية اللون لفنانين كوريين، أقيم في صالة طوكيو في اليابان. وضم بارك سيو بو، هور هوانغ، سو سيونغ وون، لي دونغ يوب، وكان كوون الفنان الأكبر عمراً بين المشاركين، وأيضاً الوحيد الذي يعمل بصورة أساسية بالورق بدل اللون الزيتي والقماش. لم يمثل (خمسة فنانين كوريين) حركة بدأها الفنان بمقدار ما كان محاولة لتنظيم المعرض التي يُسِّرت بشكل كبير من قبل لي يوفان الذي عاش في اليابان منذ عام 1956، ودعم مجموعة من الفنانين في إقامة معارضهم الأولى في البلاد لتحديد الخصائص المميزة للمشهد الفني الناشئ في كوريا.
ورغم ذلك المعارض العديدة والاستجابات النقدية التي نشأت بسبب (خمسة فنانين كوريين") بدأت تعطي “دانسيكهوا” خصائصها المميزة كحركة فنية أكثر حضوراً مع تولي بارك سيو بو القيادة في التنظير والترويج للحركة داخل كوريا.
ولكن كما كان الأمر مع “إنك غروب فورست” من قبل؛ لم يكن كوون مهتماً بأن يشمل ذاته مع مجموعة فنانين يعملون في ظل برنامج جمالي منفرد. في الواقع كان يبحث عن مشاهد فنية أخرى آنذاك. وكجزء من الجائزة التشجيعية التي تلقاها في المعرض الوطني عام 1974؛ بدأ بالسفر إلى باريس، الوجهة التي تدل على الهيبة بالنسبة للفنانين الكوريين، وفي عام 1976 أقام معرضه الفردي الأول في المدينة في صالة جاك ماسول. بعد ذلك بعامين استقال من منصبه كأستاذ في جامعة تشانغانغ، وانتقل وزوجه وولديه إلى قرية للفنانين في تورسي التي تبعد 25 كم عن العاصمة الفرنسية.
بحلول هذا الوقت توصل كوون إلى إجابة أولية على الأسئلة الأولى لأستاذه، فإذا لم تكن التنظيرات المعاصرة قادرة على الاعتماد على الأشكال الأقدم في التمثيل، فإنها تستطيع على الأقل التحول نحو المواد – العنصر الرئيس في التمثيل الكامن – كمصدر جديد للقيمة الجمالية.
الأعمال التي عرضها في صالة جاك ماسول شرعنت هذا الموقف، وهي تتكون من ورق براق عليه طبقات من اللون الأبيض، مخدوشة وممزقة، في تنقيب للخصائص الفيزيائية للمادة. تنسجم معالجة كوون لمدى صلاحية وسائطه مع تجديد الاهتمام بالمواد التي ترى في أعمال متعددة لفناني ما بعد لوحة الحد الأدنى، مثل ريتشارد تاتل. فقد كان الفنان الأمريكي يعرض على نطاق واسع في أوروبا خلال تلك الأعوام، وقد لفتت بعض لوحاته الاهتمام؛ مثل (W أصفر على كانفس)/ 1967، وهي قطعة قماش مصبوغة غير ممسدة، مقصوصة ومخاطة بشكل هندسي تجريدي يشبه تقريباً حرف دبليو مقلوب بالإنكليزية، ما يمثل الدعم الغربي التقليدي، معتبراً ذلك مادة خام.
الرسامة الأمريكية إيدا رينوف مغتربة تعمل في باريس، كانت هناك في وقت وجود كوون، هي أيضاً تركز على السطح. في عملها (تداعيات)/ 1979؛ تزيل رينوف بشكل منهجي عدداً من الخيوط الداعمة للكتان، لتشكل تكويناً يستقر فيه اللون على القماش غير المتناسق. تجارب كوون مع المادة في باريس – التي تطورت من تجاربه الأولى في فترة ما بعد الحرب الكورية – غدت الآن منسجمة مع توجهات الفن العالمي التي كانت منتشرة على نطاق واسع.
بالإضافة إلى كوون كان هناك فنانون كوريون يتحركون على المسار ذاته. وقد عاش كوون والرسام تشانغ سانغ هوا في ذات المبنى في باريس لفترة قصيرة، وكلاهما استمر في إرسال لوحات لتشارك في معارض سيول. ومثل كوون؛ يفضل تشانغ التركيبات الكبيرة المكتظمة. مشتغلاً على العديد من طبقات اللون، ليخلق تشانغ أنماطاً من الخامات تشبه الشبكة، وذلك عن طريق القطع بعناية، والتجريد البعيد لمواده المتراكمة على القماش.
أعمالهما تبدوان إلى جانب بعضها في معارض في كوريا التي سلطت الضوء على تقنية اللون الأحادي لأول مرة في (خمسة فنانين كوريين، خمسة أنواع للون الأبيض)، ويشمل ذلك (المعرض الأبيض: ثمانية فنانين كوريين معاصرين) في معهد فرانسيس بسيول في عام 1984، ومعرض (أسود وأبيض في الفن الكوري اليوم) في المتحف الوطني للفن المعاصر في عام 1987. وخلال الثمانينات – كلاهما – مع فناني دانسيكهوا آخرين؛ واصلوا التعاطي مع ردود الفعل والاهتمامات لعالم الفن الكوري في حين استمروا في المشاركة في التطورات التي تحصل في الخارج.
في حين استمرت أعمال كوون الأولى في باريس باستعمال أوراق الأرز النقية التي لا تحمل علامات مميزة، تلك الأوراق التي جلبها على دفعات من كوريا، لكنه سرعان ما أعاد الحبر ووسائل الإعلام الأخرى. وقد طبق كوون في بعض الحالات الحبر على سطوح شبيهة بأعماله على الورق الأبيض من أواخر السبعينيات.
في أحد أعماله غير المعنون من عام 1988 على سبيل المثال؛ يبدأ مع سطح ورقة كبيرة فيه ثقوب كثيرة، وحواف الثقوب الممزقة تبرز نحو المشاهد، وعلى هذا السطح يطبق مزيج البني الصدئ للحبر الصيني والألوان المائية، مضيفاً سائلاً أكثر كثافة على القسم الثالث الأعلى، ثم يضع طبقة أخرى على الجزء الأعلى من العمل، ضارباً بلطف السطح بفرشاته المنقوعة جداً، وتاركاً قطرات الحبر تسيل نزولاً على اللوحة، لتبدو عن بعد طيناً يخرج من الثقوب، مع ظهور سطح الورقة وكأنه مجروح.
يمثل كوون حس الترتيب، ومع ذلك يحول دون أن يُقرأ عمله على أنه مفرط بشكليته أوحزنه. وفي حين أن الاختيارات التي يكتشفها في عمله هي تدميرية بسبب الثقوب وامتصاص الورق؛ فإنه ينفّذ ذلك بدرجة عالية من السيطرة. في عام 1977 وبمناسبة معرضه الرابع؛ انتقد كوون ذاته بسبب ميله نحو الأناقة قائلاً: (أميل إلى ترتيب أعمالي بأناقة، وأنا ألوم شخصيتي على ذلك). ومع هذا فإن ضبط النفس هذا يقود غالباً إلى معظم الآثار الدراماتيكية في عمله. ففي عمل آخر بلا عنوان من ذات العام؛ أعد كوون سطح ورقة كبيرة بحزوز، مع خطوط متوازية عمودية، وتمزيق في الوسط، ودهن الحواف الخشنة بلون الرمادي المائي. إن الترتيب المحكم للقطع العمودي يخلق بيئة صافية لمشاهدةِ ديناميكيةِ الماء والورق. فكل قطعة من الورق تسجل تفاعلاً فريداً من نوعه، وعندما يعرض العشرات من هذه التفاعلات إلى جانب بعضها؛ فإنها تصبح شبيهة بقطعة فنية للبحث العلمي. ويسجل العمل ذات الحدث مراراً وتكراراً تحت شروط خاضعة للسيطرة التامة.
عام 1989عاد كوون إلى كوريا الجنوبية، بعد إقامته أكثر من عقد من الزمن في الخارج، وأقام مرسمه في يونغين الريفية التي تبعد 40 كم جنوباً عن سيول، وفي السنة التالية قدم أكثر من 100 لوحة نفذها أثناء إقامته في باريس، في معرض أقامه في صالة “Ho-Am” التي أصبح اسمها الآن متحف لييم سامسونغ، وهو المكان الأكثر فخامة للعرض في المدينة. وقد مدحت صحيفة جونغانغ اليومية أعماله، ووصفتها بأنها (تذهب إلى ما بعد أشكال وتقاليد الرسم الشرقي بحثاً عن عالم جديد من التجريد). بدأ كوون بعد فترة قصيرة بإنتاج السلسلة الثانية من أعماله، واستمر في استكشافاته للتفاعل بين الورق ووسائل الأعمال. وبالنسبة لهذه الأعمال، مثل سلسلته من عام 1992، فإن كوون يطوي ويجعد صفحات كبيرة من ورق الأرز، ويضعها على لوحة كبيرة موضعة على الأرض، ومغطاة بطبقات من اللون.
يتخلل اللون الورقة في الأمكنة التي تتصل بها باللوحة، عندئذ يزيد كوون من ضغط الورقة على اللوحة، خالقاً أنماطاً من اللون تحاكي طوبولوجيا سطح الورقة. وكما في أعمال الحبر والأولان المائية من باريس؛ فإن هذه السلسلة تجمع العملية الطبيعية – أي امتصاص الورقة للون – مع تدخّل وحيد في المواد يتمثل في تكويم وطوي الورقة.
وصف كوون العملية الفنية في عمله كعلاقة متبادلة مع الطبيعة. وكتب في بيان الفنان عام 2011: (الطبيعة حقيقة جميلة ومعقولة. لكن حتى في الطبيعة هناك أجزاء تبدو غير مقبولة، أو يمكن تحسينها. إن عملي هو أن أكتشف وأختار وأصلح ما هو موجود في الطبيعة). توضح العملية الفنية لكوون في هذه السلسلة ذلك النوع من المقاربة، فهو يجد سمة أساسية في المواد (شفافية الورق وتفاعله مع الماء)، ويخلق أعمالاً تكشف عن تلك السمات في أكثر أشكالها جوهرية، ويشرك ذاته بصورة انتقائية في العملية بقصد استخلاص وبلورة أنماط تظهر على الورق.
ظلت الطريقة التي تعامل فيها كوون مع الموضوعات مشابهة لبعض إستراتيجيات التمثيل التي استعملها أساتذته، مثل تشانغ وو سانغ في (القطيع العائد)، حيث يأخذ كوون في تركيباته لوسائل الإعلام المختلطة دليلاً للحياة اليومية العادية، ويرتبها بدقة، ثم يدفع تلك التفاصيل إلى سطح الورقة الفارغة ونحو المشاهد. وفي الوقت ذاته تقع الترتيبات في هذا السياق من فن البوب، معيدة إنتاج كم ضخم من المقالات. ومع ذلك فإن استعمال كوون للورق يضفي على تلك الترتيبات جواً من الخشوع، فهو مولع إلى أقصى حد بالطريقة الفريدة التي يتفاعل فيها الضوء مع سطح الورقة (لطافة الضوء المبعثر بدلاً من المزيد من انعكاسات اللون المباشرة)، وهو يستعمل هذه الأشياء ليخلق سطحاً ثلاثي الأبعاد ليبرز تفاعل الضوء مع الورقة.
لوحة بلا عنوان من هذه السلسلة، وهي ترتيب لزجاجات محطمة ومرسومة عام 2000؛ تحقق هذا التأثير بقوة، فقد تم تجريد الأشياء، مرة كونها محطمة، وثانية كونها مغطاة بورقة بيضاء، والسطح الناتج محاط بكثافة في بعض المناطق التي تحمل انطباعات واضحة لأغطية زجاجات، كما تكومت أغطية أخرى في أشكال تجريدية، إنها تجمع بين ألعاب الضوء والظلال، والسطح والعمق، والتجريد والوضوح.
إذا كان سؤال التمييز بين الرسم الشرقي والغربي هو الذي يحدد النصف الأول من سيرة كوون المهنية؛ فإن سؤال التمييز بين الرسم والنحت هو ما يميز النصف الثاني من هذه السيرة.
بالنسبة لمعرضه الذي نال عليه جائزة الفنان عام 1998 في المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر في غواتشيون؛ فقد أكد كوون هذا التغيير في عمله، وجمعت معظم الأعمال التي عرضها بين الأشياء والنقاء على الورق الأبيض. وحتى في عمر الـ73 يبدو أنه يلمّح إلى أنه لم ينتهِ من صقل ذاته، وإعادة خلقها. لكن مجرد أن أعلن هذا المعرض عن التحول الراديكالي في أسلوبه؛ فقد كان أيضاً بمثابة احتفال بالتوسط الذي كان دائماً الخيط الموجه لأعماله.
بغض النظر عن عدد المرات التي دفع فيها كوون بنفسه في اتجاهات جديدة؛ فقد كانت الورقة هي اتجاه جمالياته الأساسية. كانت طريقاً للاتصال بالتقليد، والحفاظ على التنسيق من دون أن يكون مقيداً بأي قانون أو وجهة نظر للعالم. عندما سأله الناقد الفني كيم بوك يونغ عام 1982 عما دفعه إلى التوسط؛ أجابه كوونك (عندما يجرد المرء ذاته من كل شيء ويعود إلى الورقة البيضاء؛ يكون المشاهد مدعواً لأخذ العالم الجديد بعين الاعتبار. أليس هذا ما يعنيه التجريد حقيقة؟). الورقة – وقبل أن تضع عليها علامات – لا تحمل أي مضمون يمكن أن يعزى ما هو تقليدي أو غيره، وكوون استعمل هذه التعددية ليلغي التمييزات بين الأمكنة والأزمنة والأجناس، وليبقى كذلك متميزاً فريداً.