تغير المشهد الفني والثقافي في سنغافورة كثيراً عام 1997، ولا أظن أن أحداً يستطيع إنكار حقيقة أن حكومة سنغافورة من الحكومات القليلة في جنوب شرق آسيا التي شجعت بالتدريج نمو الفن المحلي والعمارة والثقافة والتصميم عبر الأعوام الـ25 الماضية. عندما أنظر إلى الماضي وإلى رحلتي كلها كفنان؛ أرى أنّي تلقيت مساعدات كبيرة من قبل السياسات الثقافية التي أنتجت التركيبات التي شكلت حجر الزاوية في تطور عملي الفني.
على سبيل المثال؛ أعطاني المجلس الوطني السنغافوري للفنون منحاً للمشاركة في المعارض الفنية والبيناليات والمؤتمرات والمعارض في الخارج مع تكاليف الإقامة، ما ساعدني في بناء شبكة عمل أتاحت لي الاتصال بالمزيد من تلك المناسبات والمهرجانات. معرض Substation الذي أسسه عام 1990 عميد المسرح الراحل كيو باو كون؛ هو أول بناء أنشأه المجلس الوطني السنغافوري للفنون ليكون مركز فنون، كما كان أيضاً أول مكان عرضت فيه أعمالي، وهناك اختبرت العديد من الأفكار التي اعتمدت عليها معارضي اللاحقة. والمجلس الوطني السنغافوري للفنون فوِّض كذلك بإقامة جناح سنغافورة في بينالي البندقية، حيث دعيت لتمثيل وطني في الدورة الـ50 عام 2003، والقائمة تطول.
وأنا أكتب هذه المادة ظهرت رسالة على صفحتي في فيس بوك، كتبها تاي خينغ سون المعماري الرؤيوي والمفكر الذي كان منذ أواخر الخمسينيات نشيطاً في تقديم صوته وأقرانه في الخطاب السنغافوري. كتب: (ما هي الرسالة العالمية لسنغافورة؟ مثل “الروبيان السام” تخلق الخوف فقط، نجحت في الهندسة الاجتماعية الصارمة، وتشجع البيروقراطيين الرؤيويين، وهو ما سيخلق رؤية ملهمة للعالم بحيث تكون سنغافورة عاملاً مساعداً، وفي سير عملية التحول لتخرج من عقليتها كخادمة؟).
هذه الأفكار جعلتني أفكر بالدور الذي يمكن أن ألعبه كوني فنان أعيش وأعمل في سنغافورة. وأعترف أنّي كنت فيها دائماً مثل الناسك إلى حد ما، مفضلاً العمل وارء الكواليس، رافضاً الظهور في الواجهة، لكن من المهم أن أذكر أنّي رغم الأعوام التي قضيتها خارج سنغافورة، عامان في لندن، وخمسة أعوام في برلين، وعامان في نيويورك؛ لا أعتقد أنّي أغادر سنغافورة أبداً. لم أرفض يوماً المشاركة في معارض الجماعات المحلية، حتى وإن كان مكان المعرض بسيطاً، وكنت نشيطاً في تقديم معارض فردية، كما قدمت محاضرات عامة، وبالتعاون مع متحف جامعة سنغافورة الوطنية والمجلس الوطني السنغافوري للفنون؛ اشتغلت آخر ثمانية أعوام مع أحمد مشادي لتأسيس مدرسة رسمية للقيمين “Curating Lab”.
قلت دائماً إن كل قطعة فنية منتًجة تتجسد في واقع سياسي أكبر، وإن الكثير مما نفعله كفنانين في سنغافورة مرتبط بالواقع السياسي الخاص ببلدنا، وعلى هذا النحو فإن الفن يبقى سياسياً مهما أردنا أن ننأى بذواتنا عن ذلك. فكيف يمكنني كفنان أن أؤثر في هذه المجموعة من الوقائع السياسية؟ لا يعنيني أن أكون سياسياً، لكن بطرق عديدة هناك الكثير من الإمكانات المتاحة في سنغافورة للفنان للعمل السياسي أكثر من أن يكون سياسياً بالفعل.
ماذا بعد، هل يمكن أن تكون تلك احتمالات؟ أشعر بقوة أن الجواب يكمن في الموارد التي نملكها في سنغافورة، وبالتحديد الاقتصاد القوي بشكل لا يصدق، والذي يسمح بوجود فائض كبير في الميزانية كل عام، والذي يذهب بعضه للفن والنشاطات والمؤسسات الثقافية. وكوني فنان فقد حصلت على التمويل، وبالتالي من السهل عليّ نسبياً التقدم بمشاريع فنية لا تنطوي على أي شكل من "الإنتاج"، فأنا أستطيع استعمال تلك الأموال لتنظيم ورش عمل أو تنظيم إقامات غير رسمية، وكل ذلك تحت ستار مشروع فني. هذا بالطبع ليس شيئاً جديداً، وأنا لست أول من فكر بذلك، لكن ماذا لو أن فكرة “مدرسة الفنون” لم تكن مدرسة تماماً؟ ماذا لو أصبحت الجامعة بلا بداية واضحة ولا نهاية؟ أو أن تنسج الحياة اليومية؟ فتكون المكان الذي يستطيع الفنانون الاجتماع فيه، ويتعلم كل واحد منهم من الآخر شيئاً ما مجاناً.
كبداية ربما، هناك أحد الأشياء التي يمكن أن تفعلها كفنان سنغافوري، وهو أن تغذي الخيال السياسي الخاص، وفي المقابل أن تقنع الآخرين بأن يتخيلوا معك، ليس كوسيلة لتوليد الطاقة أو الوصول إلى السياسة، إنما حقيقة لتنشيط التفكير بإمكانية أن تصبح سنغافورة مكاناً رائعاً للفنانين وللنقد الفني وللقيّمين على المتاحف والمفكرين والكتاب معاً، لنتناقش ونصنع ونحسن التفكير بطرق مختلفة، ولنطور البدائل في صناعة الأشياء.
في متحف جامعة سنغافورة الوطنية توجد قاعة صغيرة في الطابق الأرضي، وعلى الباب الزجاجي يمكنك العثور على اقتباس من ماشادي: (الأشياء التي قد تحدث أو لا تحدث). ليس مؤكداً أن سنغافورة ليست جيدة أبداً، إنما اللايقين هو أحد الأشياء التي لا تجيدها سنغافورة، وشعبها غالباً لا يحب المجازفة، لكن حان الآن الوقت للتقدم خطوة باتجاه الأمام، وتقبّل المخاطر والشك، وإلا لن تكون قادرة على تقديم اكتشافات مهمة حول الفن، وحول ذواتنا، وحول العالم بأسره.