قبل عيد ميلادها السابع قرر والدا الفنانة الصينية ما كويشا أنها ستصبح موسيقية، واشتريا لها أكورديوناً، وأرسلاها إلى الأكاديمية الموسيقية المحلية، وعندما تبيّن أن الأكورديون ثقيل جداً على الطفلة الصغيرة؛ تم التخلي عن الموسيقى، وحلت محلها دراسة الرسم. والدة ما كويشا الصارمة والمتطلبة كانت تجلس خارج الصف وتنظر عبر النافذة لتتأكد من أن ابنتها تحقق تقدماً جيداً، وإذا ارتكبت الطفلة خطأً؛ كانت أمها تدخل إلى الصف وتعاقبها بقرص ساقيها.
كان العمل الجاد قدوة خلال أعوام ما كويشا التكوينية. قالت لي ومسحة من الحزن تطغى على وجهها: (كان والداي يتحدثان دائماً حول الثورة الثقافية 1966-1976، وكان عليهما التخلي عن فكرة الالتحاق بالجامعة. بذلا جهداً كبيراً ليتيحا لي فرصاً لم تتح لهما أبداً. كانت أحاديثنا تدور دائماً حول العمل بجد، وكانت هناك الكثير من الآمال معلقة عليّ).
كنت في مرسم الفنانة في منطقة شونايي التي تبعد 30 كم عن مركز بكين، وهو مستودع متوسط الحجم، فيه غرفة صغيرة تغطي جدرانها ستائر سميكة لمشاهدة أفلام الفيديو. كانت الفنانة ذات الـ34 عاماً بشعرها المربوط إلى الخلف كذيل حصان تراقب مساعديها في المرسم الذين ينادونها معلمة، ينحنون فوق طاولات مركزين على أحدث نسخة لعمل (أنت)/ 2012؛ وهو سلسلة مستمرة من اللوحات المائية والكولاج على الورق تصور مناظر المدينة المعمارية، وقد لصقت الفنانة أوراقاً من الذهب والفضة للدلالة على النوافذ، وهذه النوعية العاكسة للضوء تجبر المشاهدين على مواجهة أفكارهم الخاصة.
علاقة ما كويشا بوالدتها التي قضت أوقاتاً لا نهاية لها، وصرفت طاقة وموارد كي تحقق (نجاحاً) لابنتها الوحيدة؛ كانت دائماً علاقة مشاكسة. أستاذ الرسم خلال تلك الأيام الأولى ولعدة أعوام لاحقة كان سونغ دونغ بالنسبة لها ولوالدتها، فهو أحد أكثر الفنانين الصينيين المعاصرين أهمية بين أبناء جيله. تخرجت ما كويشا عام 2005 من الكلية العليا للفنون في أكاديمية بكين المركزية للفنون الجميلة، حيث درست وسائل الإعلام الرقمية، ثم قضت عامين في جامعة ألفريد في نيويورك، وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في اختصاص الفن الإلكتروني المتكامل، وعلى مدى العقد التالي أصبحت فنانة الوسائط المتعددة معروفة بسبب أعمالها في الفيديو والأداء والتركيب التي تتفحص العلاقات المعقدة بين الناس، وخاصة أعمال الفيديو، ومعظمها من السيرة الذاتية والبحث في الذاكرة والنزوح، وكيف أن جيل ما بعد الثمانينيات من الفنانين كان عليه أن يتصالح مع تناقض واجباته تجاه الوالدين وحريتهم الشخصية.
في عام 2007 قدمت ما كويشا فيديو (من رقم 4 بينيوانلي إلى رقم 4 تيانكياوبيلي)، مدته 8 دقائق، حيث تكلمت مباشرة للكاميرا حول علاقتها بوالدتها وخلفيتها ومشقات رحلتها إلى النضج وتحرير ذاتها من ضغط الوالدين الخانق، في سبيل تحقيق النجاح مهما كان الثمن. لحظات تحررها جاءت في اللحظات الأخيرة من الفيديو عندما سحبت من فمها ما لم يُرَ حتى الآن، وهي شفرة حلاقة مدماة. قالت: (لوقت طويل لم أعرض هذا الفيديو لوالدتي لأني أعرف أنها ستكون حزينة للغاية).
الفيديوات الأخرى تستكشف الضغط الاجتماعي الذي تعاني منه النساء في الصين الذي ظهر بسرعة. في عملها (يجب أن تكوني جميلة)/ 2009؛ تستلقي الفنانة في السرير وهي تتناول تشكيلة من منتجات التجميل بجنون لا ضابط له، كنقد للضغوطات على النساء لاتباع معايير الجمال النمطية. وفي فيديو بثلاث قنوات (وي) من العام ذاته؛ تستكشف التقاليد الاجتماعية التي تختبئ وراء الزوج، حيث ألبست ثلاثة أزواج من الرجال والنساء أكفاناً بيضاء، بعدئذ راقبتهم بصمت وهم يحررون أجسادهم من القيود التي جمعتهم مع بعضهم، فيما يعتبر انتصاراً للفردية على الاتفاقيات الاجتماعية. تقول ما: (يشكل الجنس عائقا كبيراً أمام النساء. تتزوج النساء، وينجبن أطفالاً، ومثلي ينقطعن عن الحياة لمدة عام كامل – عندها ابنة ولدت عام 2013 – ولا يقمن بأي شيء سوى أن تكون لهن أفكاراً، ويسجلن الملاحظات … وليس لدى الرجال هذا النوع من المشكلات. وغالبية الفنانات النساء في هذه الظروف يبدأن نوعاً ما من التعاطي).
تلك الفيديوات بالنسبة لها بمثابة وسائل للتطهير العاطفي، وتقدم تأكيداً على أنها حددت مكانها في العالم، بعيداً عن مكان والديها من الثورة الثقافية، إذ تعتبر أن هذه المسألة تاريخية وموجودة في الكتب فقط، وهي كظلال عالقة تتغلغل عبر حياتها الخاصة فقط من خلال ذكريات والديها. عملها (من رقم 4 بينغيوالي إلى رقم 4 تيانكياوبيلي) يعرض تحررها الشخصي من التزام الأبناء، والفيديو الذي قدمته عام 2011 (كل نباهتي تأتي من قساوتك)، ومدته 26 دقيقة؛ أتاح لها استكشاف الذاكرة النازحة بحرية. حيث تظهر اللقطات ساقيها وقدميها فقط بحذاء التزلج، وهي تنجر إلى الوراء فوق مجموعة متنوعة من السطوح في بكين. تتغير حدة شفرتي الحذاء حسب السطح الذي تُجر فوقه. قالت ما: (أحياناً علي التوقف لأعيد شحذهما، وفي النهاية يبدأ تطاير الشرر من حذاء التزلج. الطريق يمتد من بيت جدتي إلى بيتي. عندما كنت صغيرة قطعت ذلك الطريق مرات عديدة. أعرفه جيداً. كل شيء تغير كثيراً هذه الأيام، وجدتي غادرت الحياة أيضاً)، هذا الفيديو هو نوع من السيرة الذاتية، كقصة عن الرحلة الشاقة التي عاشتها ما كويشا منذ تلك الأيام التي كانت تمشي فيها إلى منزل جدتها.
أوائل عام 2015 دعت العلامة الفرنسية الفاخرة ديور ما كويشا لرسم أعمال إبداعية عن مدى صلة ديور بالفن المعاصر إلى حانب 17 فنانة عالمية، وكان الشرط الوحيد أن يحتوي الفيديو زوجاً من قفازات ديور، وقد افتتح المعرض في مركز يولين للفن المعاصر في بكين في شهر أيار/ مايو.
هذه الدعوة أتاحت لها الاستمرار في البحث في قصص الأطفال التي بدأتها في فيديو (بياض الثلج)/ 2009؛ وفيه تظهر الأميرة سجينة في صندوق موسيقى زجاجي مغلق، كما أنتجت لشركة ديور (الأميرة النائمة)/ 2015؛ العمل الذي يمكن أن يثير العواطف بسهولة كبيرة، والذي بإمكانه أن يسوق منتجات ديور، إذ قدم انعكاساً تأملياً للحياة والموت والولادة الجديدة، ففي الفيديو بطلة محاصرة تحت الجليد الذي يذوب تدريجياً، متيحاً الولادة من جديد بين أزهار الربيع. تقول ما: (لكن عالم الكبار ليس كذلك، حقيقة إنه وهم)، في الوقت الذي تأخذ فيه القصة تحولاً شريراً يبدأ الجليد بالتشقق، ويتغير الفصل. (الأميرة النائمة) تُلَّف في النهاية بالسيلوفان مثل طرد بريدي جاهز للتسليم. ومع أن الفيديو ذو جمال باذخ، إلا أنه رثاء لاستعباد النساء لتصورات الرجال للأنوثة، فهن ما يزلن يعاملن مثل "أشياء"، أو حتى “سلع” في مجتمع لا يزال نظامه أبوياً بشراسة.
أما الأكورديون فإنها ما تزال تحتفظ به حتى الآن، وهو ما يزال ثقيلاً جداً بالنسبة لها كي تعزف عليه. هذه الأيام أصبح رمزاً يذكّر بتجاوزات الوالدين القمعية في المجتمع الصيني، حيث نتائج سياسة الطفل الواحد للأسرة ما تزال تتكشف آثارها. تقول بإصرار: (لن أجبر ابنتي على التلوين أو على الرسم أو على عزف الموسيقى، وأنا لن أصبح “الأم النمرة”)، في إشارة إلى كتاب النمرة الأم للكاتبة آمي شوا الذي يتناول هذا الموضوع.