قابلت الفنانة اليابانية شيهارو شيؤتا في متحف الفن المعاصر في سيدني، برخلة في العبارة، وعلى مسافة قصيرة من جزيرة كوكاتو، حيث يعرض تركيبها (نوم صاحٍ)/ 2016؛ كجزء من بينالي سيدني (3-18ولغاية 6-5).
تاريخ جزيرة كوكاتو ذو أدوار متقلبة، إذ تشمل تضاريسه سجن المحكومين بالحبس الطويل، وحوضان لبناء السفن، وفي الآونة الأخيرة موقعاً للتصوير السينمائي، وفي آخر أدوارها – وبوصفها سفارة الواقع للمديرة الفنية للبينالي ستيفاني روزينتال – استعار البينالي رمزية "السفارة"، كونها كيان داخل دولة، وهو مكان مؤقت وليس دائماً، ومجال لتشابك الأفكار والتأملات وتقاطعها.
قدمت الجزيرة منصة لاستكشاف تعريفات الواقع، والفضاء بين الرقمي والمادي والحقيقة والخيال، وقد جاء تركيب شيؤتا ليجسد ممارستها المميزة، التي هي نوع من التأمل المستمر لقدرة الماضي على غزو الحاضر، والتركيب متصل مباشرة بتاريخ الجزيرة المظلم كمكان للمحكومين بالسجن لفترات طويلة.
تركيب (نوم صاحٍ) يملأ فضاء الظلام البارد الذي ضم في الماضي 170 محكوماً، حيث صفّت شيؤتا عدداً من أسرّة حديدية ذات طراز قديم، لفّتها بخيط أسود لتثبيتها، لكنه “حبسها” في ذات الوقت. فالمحكومين من وجهة نظر شيؤتا كانوا بلا غرف تؤمن لهم الراحة وهم مضطجعون، ويمكن أن يكونوا قد ناموا واقفين. فيما يمثل السرير الأفقي المنفرد في التركيب ليس فقط الحرية والنوم، إنما الموت أيضاً، فإذا لم تكن قادراً على الوقوف في تلك الظروف الصعبة؛ فإن الاستلقاء يمكن أن يكون إشارة إلى الهزيمة.
الحديث مع شيؤتا يشعر المرء أنها تتعامل مع شيئ في داخلها لكنه غير معلن، وربما كان حقائق مؤلمة عانتها خلال عملها الفني.
ولدت شيؤتا في أوساكا، وهي الآن مقيمة في برلين، وكلام الفنانة البالغة 44 عاماً مع ضيفها عميق وناعم، وبالتأمل في (نوم صاحٍ) قالت لي شيؤتا يتم تجاهل السرير، لكنه موضوع مهم، نحن نولد في سرير، وننام ونحلم معظم حياتنا في سرير، وسيموت العديد منا في سرير). إنها تتحدث عن الموضوع على أنه أمر واقعي.
العديد من الأشياء الموجودة في تركيبات شيؤتا موجودة في حياة الإنسان ورغباته وأحلامه، أي الأسرّة والملابس والحقائب والمفاتيح والأحذية، وهي تستعمل الخيط لتحمي هذه الأشياء في تركيبات معمارية تصفها الفنانة كـ (لوحات في الفضاء)، فهي اسكتشات غامقة بقلم الرصاص، فقست وجاءت إلى الحياة في عالم الواقع. أما لون الخيط فهو دائماً أسود أو أحمر، فالأسود ممثل للكون والعقل، والأحمر يمثل الجسدي والاجتماعي والإنساني. وبهذا المعنى فإن الأحلام وتخيلات العقل تكون إلى جانب رغبات وحالات الجسد التي تتحكم وتحفظ وتغلف الأشياء الموجودة في أعمال شيؤتا. فكل فرد يترك بصمته على العالم بطريقة أو بأخرى، وكل شيء موجود في العالم يكون بطريقة ما متصلاً بجسد الإنسان وعقله.
كانت شيؤتا تفكر بهذه العلاقات لسنوات عديدة، وقد مثلت اليابان في بينالي البندقية الـ56 بتركيبها الوحيد في جناح جزيرة الأمة (المفتاح في اليد)/ 2015: فكان مثالاً على كيف تجد تخيلاتنا طريقاً عبر العالم، وعلى الرحلات التي نقوم بها عبر الحياة، وفي التركيب شبكة ضخمة من الخيوط الحمراء التي تربط 50 ألف مفتاح إلى جانب هيكلين لقاربين خشبيين متداعيين، حيث تظهر مثل أيدٍ تمسك بذاكرات الناس، كما لو أنها مدفوعة بموجة مد حمراء، ليمثل كل مفتاح فيها شخصاً واحداً (برأس كبير وجسم صغير).
رغم أن التركيب لم يكن يصور رحلة خاصة بعينها؛ إلا أن القاربين يثيران في الذهن صور وسائل الإعلام عن لاجئين يفرون من الحرب عبر البحار، وقد جمعت شيؤتا المفاتيح من كل أنحاء العالم، من صناديق جمع في المتاحف، ومن أماكن نسخ المفاتيح حيث يمكن للناس أن يودعوا المفاتيح القديمة عندما يحصلون على أخرى جديدة.
تقول شيؤتا بتأمل: (المفاتيح تحكي الكثير من القصص)، ومن بينها قصة الفنانة الخاصة، فقد أخبرتني أن خسارتها الشخصية دفعتها للقيام (بشيئ هام، شئ إنساني له معنى)، وقد شعرت أن المفتاح مفعم بالرمزية، وتضيف موضحة: (المفاتيح تجسيد لشيئ شخصي جداً، وهو مهم جداً في حياة كل فرد. وبدون مفتاحك الخاص أنت ضائع. إن إعطاء المفتاح لصديق أو لقريب أو بصورة خاصة لغريب؛ علامة على الثقة).
في عمل شيؤتا حضور لثقل سيكولوجي وطاقة داخلية جارفة رغم الغياب التام لتمثيل الإنسان، ومع ذلك – في بعض الأحايين – تضمّن شيؤتا الجسد في عملها، عندئذ تتجسد الإمكانية الأدائية في أعمالها. وفي العديد من تجسيداتها السابقة في (نوم صاحٍ) يستلقي الناس الحقيقيون على الأسرّة، ومن الغرابة أن أجسامهم تبدو كجزء من العمل الفني.
تدربت شيؤتا خلال سنوات دراستها في برلين مع الفنانة الأدائية مارينا أبراموفيك، وبسبب تأثيرها عليها أتقنت القوة المسرحية للجسد، وتم ذلك في الفترة التي أنجزت فيه شيؤتا عملها (حاول واذهب إلى البيت)/ 1998؛ حيث صامت أربعة أيام، جلست عارية تماماً في حفرة في الأرض، وبرهنت على التزامها بالأداء، وبأشكال الفن القائمة على التحمل، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت أعمالها تظهر في الأوبرا وفي الحفلات الموسيقية وفرق الرقص.
برلين وطن شيؤتا منذ 20 عاماً. سألتها كيف أثر ذلك على عملها؟ قالت: (عندما أكون في اليابان أنا يابانية، وعندما أكون في برلين أنا ألمانية، الداخل والخارج وفي منطقة بينهما). موقع شيؤتا “بين بين” غير عادي، لكن شعورها به أعطاها فرصة لاستقراء الشخصي على نطاق واسع. وفي الواقع من الصعب عدم رؤية أعمالها كتعبير عن كيف نناقش قضايا الحياة الكبرى.
عملها (في البدء كان …)/ 2015؛ هو قطعة واحدة توحي بهذه التعابير، وهو تركيب يربط الأشياء بخيط أسود، يشير إلى أصل الكون، وإلى أهمية وألوية هذه المسألة. فالخيوط السوداء تمثل الشبكة المظلمة للكون، والكائنات العالقة في داخله هي الكواكب المضيئة والنجوم. ومثل حياتها الخاصة التي عاشتها خارج الحدود؛ تقدم أعمال شيؤتا الفنية حركة وتدفقاً كبيرين، وأيضاً الهدوء والسكون والجمال.