في كانون الثاني/ يناير؛ بادر حاكم الشارقة في الصحراء بالكشف عن قبر اكتشف حديثاً يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ويحمل اسم ملك من مملكة عمان القديمة.
التصريح الذي رافق الإعلان عن الحدث أشار أن للاكتشاف (أهمية تاريخية كبيرة للمنطقة)، وسيقدم (البرهان على وجود مملكة قديمة). ومع ذلك سرعان ما كشف التصريح الصحافي المتفائل عن أن الموقع التاريخي سيكون جزءاً من (مشروع سياحي اقتصادي وأثري) واسع، وسيُكمل بإقامة (ثلاثة فنادق فخمة ومرافق ترفيهية).
ذلك الإعلان يثير استغراب المرء. فكيف ينحدر علم الآثار الذي يكشف عن أدلة تأسيس الأساطير ويقدم دعماً قديماً للسرديات الوطنية المتخيلة؛ إلى مجرد علف في متنزّه ترفيهي؟ هذا السؤال كان نواة المعرض الأخير للفنان اللبناني علي شرّي في متحف سُرسُق في بيروت.
يتألف معرض (تصنيف الأضاليل: حياة أجسام خامدة) من ثلاثة أعمال، وهي: تركيب (كسور)، وفيديو (متحجرون) من عام 2016 اللذين تم عرضها في صالتي عرض سُرسُق التوأمين المتماثلتين، بالإضافة إلى فيلم (الحفار)/ 2015؛ الذي عُرض في قاعة التركيبات.
(كسور) عمل ضخم، وهو عبارة عن طاولة تشبه صندوقاً مضاءً، تحمل حشداً من القطع الأثرية متفاوتة الأصالة، منها الزائف والحقيقي، ومعظمها رؤوس وأشخاص من الطين، وأحجار، وقطع خشبية، وقد حصل عليها بشكل أساسي من بيوت المزادات، بعضها يحمل علامات تدل على مصدرها.
أما عمل (متحجرون) فيستخدم تحت ضوء النيون طيوراً متراقصة ضمن محمية مغلقة للحيوانات البرية، مع صفوف من القطع الأثرية، وتضاريس مشققة مصغرة لصحراء الشارقة الواسعة.
تبدو الأعمال مجتمعة وكأنها نقد لفكرة “المتحف” و"محميات الحياة البرية"، باعتبارها أماكن مكرسة لمشهد “إعادة خلق” ما ضاع، وتجميد ما “يستحق” أن يحفظ في إطار.
يضم عمل (متحجرون) مشاهد لدواخل متحف الشارقة، وهي تعج برفوف عرض وصور تندرج تحت موقف خاص بالخليج تجاه “تقديس” القطع الأثرية التي كشفت عنها الحفريات، والتي تم توظيفها لنسج القصة القومية التي تخبرنا عن الممالك والمدن القديمة، متبوعة بالتزام حرفي وفاضح في ذات الوقت للتقاليد الغربية فيما يتعلق بالآثار التي يعود تاريخها إلى بدايات مشروع الأثار ككل. والمفارقة المحزنة لتلك الأمم الحديثة التي تنهار نتيجة الصراع حول دول الخليج؛ تتجسد بأصوات معاول الحفر في المواقع الأثرية التي تتماهى مع أصوات تلك المطارق التي تدمر الآخرين.
بصرامة وهدوء يقوم شرّي بالسرد في عمله البصري السمعي (متحجرون)، بنبرة تحمل بشكل طفيف تقييماً أخلاقياً لموضوع سردها.
المشهد الختامي للفيلم هو اقتباس من عمل الروائي السعودي عبد الرحمن منيف (بادية الظلمات)، وهو جزء من خماسية (مدن الملح)/1984 – 1989، والرواية تحذيرية تتحدث عن تحول الثقافة البدوية السعودية بسبب الفورة النفطية التي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي.
على غرار منيف؛ يفضح شرّي التداعيات، فليس فقط نبش رفات الموتى هو انتهاك كبير لتربتهم كما تم اقتباسه في (متحجرون)، لكن أيضاً في أن القضية الحقيقية تكمن في ما ينتج عن ذلك من منشآت ومتاحف ومواقع تاريخية وماهية ما تقدمه، حيث هي مثل “مدن الملح” التي بنيت على عجل، بلا قيمة، وبمجرد مظاهر جوفاء.
ثمة مفارقة عميقة في (تصنيف الأضاليل)، يجسدها بامتياز مقطع من (متحجرون)، يقدم تساؤلاً حول محاولتنا إنقاذ الآثار من هشاشتها، وهو: ألا يعني حقيقة أننا نتنصل من حالتها كآثار؟
غير أن الأكثر سخرية هو الشعور بأن قطع الآثار “التي تم إنقاذها” هي مجرد بضائع يتم تقدير قيمتها والمتاجرة بها في نهاية المطاف. وهكذا.. من مبادرة وطنية إلى مشروع سياحي؛ ثمة خطوة صغيرة نحو سوق التجارة الرأسمالية.
ليلة افتتاح المعرض قدم شرّي بثاً مباشراً لمزاد خاص بقطع أثرية تشبه القطع الموجودة في المعرض.
وبالنظر إليه كمعرض متكامل؛ إلا أن العمل يفتقد إلى حد ما الانطباع بالتوازن، وبينما يتصدر عمل (متحجرون) مكانة مهمة، فإن عمل (كسور) يبدو وكأنه غير مكتمل، فيما يبدو (الحفار) زائداً لا ضرورة لوجوده.
ربما الجمالية الواعية إلى درجة رفيعة هي التي تربط بين تلك الأعمال، متجلية بالمساحات الصحراوية الأحادية اللون في عمل (الحفار) شبه الصامت، وفي صبغتها الأدائية الواضحة، حيث تنحني مشرفة على موقع أثري، وتتعرج في طقوس لا مغزى لها، وتتردد بشكل متعمد في (كسور)، وكذلك في اللقطات القريبة المتعمّدة في عمل (متحجرون)، ومع ذلك فإن إبداع (تصنيف الأضاليل) يكمن في حضوره القوي في "المتحف"، وفي النقد المؤسساتي، حيث يسائل شرّي البنية الشرعية لـ"المتحف"، ومدى قدرته على منح معنى وقيمةً للقطع المعروضة فيه.
مع ظهور متاحف جديدة أخرى في المنطقة يتناول (تصنيف الأضاليل) الخلل في النظام القائم للمتاحف، متسائلاً فيما إذا كان حقيقة ذا جدوى على أي مستوى كان.