رسام من هونغ كونغ يستمتع بالديناميات الشخصية الغامضة والصور الغريبة في مهاجمة القيم البريطانية.
مر أكثر من عقد تقريباً على مشاهدتي أعمال الرسام البريطاني فرانسيس بيكون (1909 – 1992) للمرة الأولى في معرض الكتاب في هونغ كونغ، حيث اكتشفت دراسة عنه على رف مليء بالكتب الفنية. وهنا لا أريد تسمية ذلك (الحب من النظرة الأولى)، لكني لم أستطع مقاومة الاستمرار بقراءة الصفحات. فقد أثار فيّ الكثير من الأسئلة حول أعماله، والكثير من المشاعر التي لا أستطيع وصفها. وفي النهاية اشتريت الكتاب بـ50 دولار هونغ كونغي كانت بحوزتي.
هذه الأيام تُباع لوحات باكون بأسعار خيالية، وهي أحياناً تنافس أعمال بيكاسو، وهناك عدد كبير من السير الذاتية والمقابلات والمقالات التي كتبها خلال حياته وعمله، والعديد من الفنانين اقتبسوا منه، وتأثروا به كفنان كبير. (داميان هيرست يدّعي أنه كذلك، لكن – من وجهة نظري – ما هو إلا مقلِّد).
في الحديث عن أعماله؛ عبّر باكون عن سعيه لتخليص أعماله من السرد والصور التوضيحية، من دون السماح لها بالوقوع في التجريد الكامل، فقد أراد إقامة جسر بين الصور وعقول المشاهدين، مبتعداً عما يمكن وصفه، ومتجنباً كذلك ما لا يمكن وصفه.
من الطبيعي ألا يكون قد لقي هذا المنهج صدى عند الجميع، لكن بالنسبة لأولئك الذين اتبعوه؛ فإنه يشبه النظر إلى المشهد من زاوية مختلفة، ومن وجهة نظر مغايرة تماماً.
بتقديري الشخصي؛ باكون تقليدي وثوري في الآن ذاته، فهو يستعمل القماش والألوان التقليدية ليبدع لوحاته، كما تخلى عن العلاقة القديمة بين الفنان والموضوع، ليتركنا فقط مع الصورة.
في فن البورتريه هناك ثلاثة أطراف مشتركة، وهي الرسام والموضوع والمشاهدون. وتقليدياً بالنسبة للجنس الفني؛ كان التركيز دائماً على الموضوع. وفي اللوحة العظيمة يمكن أن يصبح الموضوع وسيلة أو منظوراً تنقل أفكار الرسام أو رسائله إلى مدارك المشاهدين الذين يتلقون العمل.
إن المسألة متسلسلة جداً. ومع ذلك تلتقي الأطراف الثلاثة عل قدم المساواة في تصوير باكون. فالموضوع في البورتريه هو بيكون ذاته، وكذلك أي مشاهد يقف أمام العمل. فهو يبسط أعماله ورموزه إلى الحد الأدنى، وهكذا لا يبقى مجال للتفكير أو للتفسير. لقد سعى بيكون للتعاطف الواضح مع مشاهدي أعماله من خلال التركيز على الصورة.
وبمقارنة أعماله بأعمال رامبرانت؛ فقد كان الرسام الهولندي الذي عاش في القرن الـ17 يستمتع بالخصائص العميقة للون ذاته، ويستعمل المواد بثقة وبطريقة بارعة، أما موقف باكون من الألوان فهو عدمي ومختزل. وبالنسبة له فإن خلق السطح التكويني باللون يثير رد فعل عاطفي، ويأخذ انتباه المشاهد إلى تجربة العمل. وهكذا تبدو أعمال باكون مسطحة تماماً.
بالطبع هناك تحديات في منهجٍ كهذا، على اعتبار أنه على الفنان التأكيد باستمرار ألا ينتهي الأمر بأن تصبح العادة أو العقل يتحكمان بيديه.
رفض باكون “الكلام” باللغة المشتركة أو العالمية للرسم، وفضل العودة إلى الماضي، والتركيز على المسائل الأكثر جوهرية، وعلى الطرائق الأكثر بدائية للتواصل مع جمهوره.
اللوحة اليوم متأخرة، فهي لا تصل إلى مكانة الوسائط الفنية الأخرى في مجال المحاولات الجادة للتجريب والتلاقح. كما أن اللوحة لحقت بها “وصمة عار” التسويق، باعتبارها الشكل الفني الأسهل للبيع.
ماذا بقي من الرسم بعد ظهور شبكة الإنترنت التي تقدم المزيد من الصور يومياً بعدد الذرّات في سماء بكين، وقد تحولت اللوحات إلى صور تظهر للحظات على شاشاتنا؟
إن الطريق تضيق أكثر فأكثر. ففي عصر تطغى فيه الابتكارات الشكلية أو المفاهيمية على مجالات فهمنا يصبح من الصعب أن نجد شكلاً للتعبير يتحدث مباشرة مع حدسنا وغريزتنا ودواخلنا، ولذلك عندما أفكر بمثابرة باكون وشجاعته أتذكّر أي نوع من الرسامين أريد أن أكون.