من خلال مائة موضوع، استخدم المساهمون في مجلة آرت آسيا باسيفيك عدة آلاف من الكلمات الفريدة، والتي استخدام بعضها مراراً وتكراراً، فيما ظهر البعض الآخر في سياقات محددة. لكن على مدى 23 عاماً من عمر المجلة تغيرت لغة الفن جنباً إلى جنب مع تغير العالم. والآن – ولأن نصوص آرت آسيا باسيفيك حُفظت رقمياً – فإننا كمحررين قررنا مراجعة تاريخ خمس كلمات كما ظهرت على صفحات المجلة.
التعابير الخمسة التي سنسلط الضوء عليها في هذا الباب؛ تروي تواريخها مسار ممارسة الفن، واستجابة العالم لها.
المحرر دون جي. كوهين استعرض تاريخ (الرقابة على المطبوعات) الطويل والهزلي أحياناً، والتداعيات المتناقضة للرقابة الرسمية، وخاصة خلال العصر الرقمي الذي أعطى أهمية أكبر للتأثير على الأفراد، فعلى سبيل المثال يبدو أن العالم كله يعرف اسم آي وي وي.
إن الفن المعاصر يركب التيارات ذاتها مثل بقية الثقافة؛ كما يدل استعراض المحررة هاناي كو في رسومها البيانية لتكرار “إحياء” الأساليب الفنية القديمة، وبصورة خاصة تلك التي تصنف أنها "تقليدية"، والتي ظهرت في عدة حركات منذ القرن الـ20 وحتى الوقت الحاضر.
قدم الفنانون والقيّمون ومنظرو الفن المعاصر معانٍ أكاديمية للتعابير المستعارة من الاستعمال الشائع، لكنها لم تلقَ ترحيباً من المتعصبين نظراً لـ"نقاء" اللغة.
مدير التحرير دينيس تشو يتأمل في الأمثلة المربكة لكلمة “التدخّل” التي تم تحويرها كي تعطي معنى “عمل” أو “حالة” تعترض بطريقة أو بأخرى التدفق الطبيعي للنشاطات. ثم إن المقطع الذي كتبته حول مصطلح “أرشيف” يتابع التحول في استعماله من معنى بناءٍ تحفظ فيه وثائق، إلى المعنى التجريدي الذي يعني تجميع المعرفة، والتي غالباً لا يمكن الحصول عليها في الحياة الحقيقية.
يأخذ هذا الباب منحى تحليلياً للمصطلحات، حيث تبحث المحررة المساعدة سيلفيا تساي في الأبعاد المجازية لمفهوم “النظام البيئي” الذي أصبحنا نستخدمه في حديثنا عن عالم الفن، مشيرين في آن واحد إلى الناس والبنية التحتية التي تجعل مكاناً معيناً على الشاكلة التي هو عليها. وفي نهاية المطاف؛ فإن اللغة هي المساحة التي نبدع من خلالها هذا العالم، والذي نقيس من خلالها صحته ومستقبله.
HG MASTERS
قبل الأرشفة كان هناك عصر دون شك، ورغم ورود الكلمة ثلاث مرات على الأقل في كل إصدار من مجلة آرت آسيا باسيفيك منذ العدد 55 الصادر في أيلول- تشرين الأول 2007؛ فإن استعمالها الأساسي لم يبدأ إلى أن وصلت المجلة إلى عددها الـ13 عام 1997، وذلك في مقالة كتبتها ساتيش شارما بعنوان (روتيغرافي: صور الشارع الهندي)، الاسم الذي يجمع اسم الخبز الهندي “روتي” مع كلمة فوتوغرافي.
وقد ناقشت المقالة المركزية في الحياة الهندية للصور الملتقطة بوساطة الموبايل. تقول شارما في المقالة إن ذلك الشكل العامي للتراث الثقافي تم تجاهله حتى الآن، كاتبةً: (الأرشيف ومتاحف التصوير لم تصبح حتى الآن جزءاً من سيناريو الثقافة الهندية. وكلتا المؤسستين اللتين بدأتا تُظهِران اهتماماً بجمع الصور الفوتوغرافية متحيزتان بشكل واضح للتصوير على أنه “أرشيف” أو "فن"، وذلك من منطلق الفن الجميل الذي هو في المقام الأول “تصويري” وحداثي.
ومع أن شارما استخدمت الكلمة بدايةً بصورة أساسية بمعناها الأكثر مادية كمؤسسة تحفظ الوثائق؛ بدلاً من معناها الأكثر تجريداً بتجسيده غير الملموس للمعلومات، سواء كانت بصرية أم واقعية أم جمالية، إلا أنها كانت رائدة في التنويه إلى ازدياد الاهتمام بحفظ الأعمال البصرية التي لا تصنف بشكل مباشر وصريح بأنها “فن جميل”، وقد ربطتها بممارسة التصوير الفوتوغرافي. وهنا لابد من الإشارة إلى أن “المؤسسة العربية للصورة” التي لها مهمة مماثلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية؛ كانت قد تأسست في ذات العام في بيروت.
فيما بعد جاء التحول في ذات العدد، حين وصفت القيّمة ناتالي كينغ تركيب (Peeping Tom)/ 1995؛ للفنانة روزاليند دروموند، وهو عبارة عن مجموعة (صور بالأبيض والأسود، معلقة بشكل عشوائي على جدران الصالة مثل أرشيف)، ملمّحّة إلى أنها ليس تركيباً إنما "أرشيفاً"، وهي تشبه تجميع أشياء ذات علاقة ببعضها موضوعاً أم شكلاً، وربما التُقطت لتمثل ظاهرة أكبر.
إن استخدام كينغ ما استحضره رانجيت هوسكوت في العدد الـ33 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في كانون الثاني – شباط 2002، عندما كتب عن أعمال الفنان أتول دوديا: (كنز الصور الفوتوغرافية الذي بدأ دوديا بمعاملته كمرجع بصري؛ هو عبارة عن أرشيف لذاكرة جمعية). وقد ضمّن الفنانان في كلا التركيبين الصور داخل العملين للتعليق على العالم خارج الإطار الفني.
إن سبب انتشار فكرة الأرشيف، وما سمي ممارسات الأرشفة في تسعينيات القرن الماضي؛ مرتبط على الأرجح بظهور المشاريع القائمة على البحث واعتناق عالم الفن النظرية النقدية، وخصوصاً كتابات ميشيل فوكو حول تاريخ المعرفة، وتنظيرات جاك دريدا الذي طبع كتابه (حمى الأرشيف) باللغة الإنكليزية عام 1996. وقد أصبح “الأرشيف” بمثابة مجاز للألفية الجديدة. ذلك أن مؤرخي الفن مثل هال فوستر (نبض أرشيفي)/ 2004، والقيّمين استعملوا مفاهيم دريدا لتأطير تساؤل الفنانين عمن سيكتب التاريخ؟ ومن سيستطيع سرد التاريخ المغاير من خلال الصور؟
ومن أبرز هؤلاء أوكوي إنويزور الذي أقام معرضاً عام 2008 بعنوان (حمى الأرشيف: استعمالات الوثيقة في الفن المعاصر)/ 2004؛ في المركز العالمي للتصوير في نيويورك.
لقد أصبح السؤال – وما يزال – ذو أهمية كبيرة، وبصورة خاصة في المجتمعات التي لا يزال مُختلف عليها تاريخياً، مثل حالة انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وأيضاً لدى “الأقليات” في كل مكان من العالم.
وعلى هذا النحو اهتم الفنانون بالموضوعين التوأمين، أي التاريخ والذاكرة. وتعاملوا مع وسائل الإعلام الفوتوغرافية أو الرقمية، مثل فيفان سوندارام، وأنجو دوديا، ودايانيتا سينغ، وCAMP من الهند، ووليد رعد، وليما جريج من لبنان، وهم من أكثر المرتبطين بصورة متكررة بمجلة آرت آسيا باسيفيك مع “الأرشيف”.
ليس ثمة نهاية للأرشفة في المدى المنظور مؤسساتياً أو فنياً، وكما كتبت جيوتي ذار حول تجربتها في جافنا لمجلة آرت آسيا باسيفيك في عددها الـ97 الصادر في آذار – نيسان 2016: فإن (مدينة من دون أرشيف هي مدينة من دون سلام)، مشيرة للحاجة إلى كتابة تاريخ مفتوح وواضح يعترف بمؤلفيه ويبنى على تمثيلات كثيرة ومختلفة للعالم.
HG MASTERS
إن كلمة “تدخّل” متعددة المعاني، بدليل ظهورها المتكرر في صفحات آرت آسيا باسيفيك، حيث بلغ مجموع ورودها 200 مرة.
ففي أول مرة وردت في عدد آسيا باسيفيك آرت الرابع الصادر في تشرين الأول – تشرين الثاني – كانون الأول/ 1994، أي في السنة الثانية من عمر المجلة، وكان ذلك في مقالة القيّمة الأسترالية جولي إيوينغتون حول الرقابة في إندونيسيا، حيث أن “التدخّل الرسمي” منع افتتاح معرض في جاوة الشرقية، لاحتوائه مضامين حساسة سياسياً.
هناك تمييز بين استخدامات كلمة “تدخّل” بمعنى الانقطاع في حالة مستمرة، مثل “التدخّل القضائي”، أو “التدخّل الطبي”.
وفي السياقات الفنية؛ “التدخّل الفني” كما عرفه قاموس تيت للمصطلحات الفنية هو (تطبيق لفن مصمم بصورة خاصة للتفاعل مع تركيب موجود أو حالة قائمة، سواء كانت عملاً فنياً آخر أم جمهوراً أم مؤسسة أم مجالاً عاماً. وهكذا؛ ومن خلال “تدخّلاتهم” في العالم الحقيقي؛ فإن (الفنانين يسعون لرفع مستوى الوعي وتحقيق تغيير ما، وحتى تحويل الوضع الراهن جذرياً، مما قد أدى إلى تنوعات كبيرة “للتدخّلات الفنية” لم يحصل مثيلها فيما مضى).
في لغة عالم الفن ما يزال “التدخّل الفني” الأكثر شيوعاً بربطه بفن الأداء والفن المفاهيمي. ففي مقالة (ما وراء السخرية: طليعية الصين في التسعينيات) المنشورة في العدد الـ9 من آرت آسيا باسيفيك في كانون الثاني / آذار / نيسان 1996؛ يصف القيّم هو هانرو الفنان الصيني المؤدي تشانغ هوان بأنه (يكشف عن الحالة العبثية لحياة البشر من خلال “تدخّلات” غير متوقعة في أمكنة عادية للحياة اليومية)، مثل المراحيض العامة، أو الشقق السكنية المتهالكة.
في العدد الـ76 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في تشرين الثاني – كانون الأول 2001؛ كتب الفنان الإسرائيلي رونين إدلمان تعليقاً على مشروع التسعة أيام الذي بادر به وزميله غاي بريلر ليتواصلا مع المجتمعات في أرض إسرائيل – فلسطين التاريخية (أرض إسرائيل – فلسطين) موسعاً فكرة العرض إلى أعمال تبلغ ذروتها في مشروع فني سياسي اجتماعي. وقد جهز الاثنان كرافانتهما بوسائط اتصال متعددة "مكّنت تدخّلات على مدار الساعة في أمكنة متنوعة)، حيث استمر تدفقهما على شبكة الإنترنت 24 ساعة على مدار يوم كامل.
“التدخّلات المدنية” أو المشاريع المعمارية النحتية في الأماكن العامة تكرر ذكرها أيضاً في عدد آرت آسيا باسيفيك الـ54 الصادر في تموز- آب 2007، حيث قدم محرر نيودلهي ديكشا نات مشروع شيزاد داود الذي أُقيم في لندن، والذي كان “تدخّلاً عقارياً” عام 2005، حيث وظف الفنان مهندساً معمارياً ليحول مبنى تراثياً في لندن إلى استوديو وصالة عرض، وقدم معرضاً فيه، ثم استأجر وكيل عقارات كي يبيع المبنى، من خلال خطة (تتحدى الهرمية السائدة للعمل الفني ـ السلعة ـ العقار ـ الثروة) حسب تعبيره.
في عدد آسيا آرت باسيفيك الـ58 الصادر في أيار- تموز 2008، وردت مقالة (منحوتة اليوم الواحد)، وهو اسم مهرجان أّقيم نيوزيلاندا، وفيه عرض الفنانون أعمالاً صممت خصيصاً لفضاء العرض في عدد من المدن (شملت أعمالاً من المنحوتات والتركيبات والعروض و"التدخّلات" الآنية لمناحي البيئة المدنية)، وقد استمرت جميعها 24 ساعة أو أقل.
تقليدياً يشير مصطلح “النظام البيئي” إلى شبكة من العلاقات الموجودة في العالم الطبيعي. كان ذلك سياق استعمال الكلمة لأول مرة في آرت آسيا باسيفيك في عددها الـ53 الصادر في أيار- حزيران 2007، حيث قدمت ريبيكا كاتشينغ عرضاً عن معرض (حديث الجسد) الذي أقيم في صالة إيستلينغ شنغهاي. فعرضت الطرائق التي استخدم فيها الفنانون جسد الإنسان كمساحة للتعبير الإبداعي، ووصفت كاتشينغ سلسلة الصور الفوتوغرافية للفنان هوانغ يان بأنها (وشم المناظر الطبيعية الصينية)/ 1999، حيث عرضت صوراً ذات طابع تقليدي مرسومة على جذع الفنان، وهي للتذكير بأن (الإنسان جزء من النظام البيئي، وهو ذاته قابل للتلف، وقد تم تجاهل هذه الفكرة إلى حد كبير في التدهور البيئي المستمر للصين).
قدم مصطلح “النظام البيئي” عام 2010 في آرت آسيا باسيفيك، محولاً الانتباه من العالم الطبيعي إلى الارتباط الكوزموبوليتاني لمنظمات الفنون ومجتمعاتها. وقد كتب هان يان يوين في العدد الـ70 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في أيلول- تشرين الأول 2010؛ خلال استعراضه معرض سيمون بيرش (الأمل والمجد: سيرك مفاهيمي) في ArtisTree في هونغ كونغ، ووصف مجموعة فريدة من الظروف، فكتب: (معرض مبادرة الفنان ليس صالة وليس متحفاً، فهو يحتل موقعاً غريباً في نظام الفن البيئي)، كما أن بيرش ذاته جمع مبلغ 513,000 دولاراً أميركياً، وهو المبلغ اللازم لإقامة المعرض، من خلال المساعدات الحكومية، وبالتعاون مع علامة أزياء إيطالية / تمثل DIY، وروح ريادة الأعمال الخاصة في هونغ كونغ، حيث هناك نضال مستمر لإيجاد أمكنة متوفرة وموارد مالية.
وبالمقارنة مع مفردات وتعابير مماثلة؛ كـ"عالم الفن" أو الشبكات الإقليمية المختلفة الموجودة؛ فإن مصطلح “النظام البيئي” يميل إلى أن يكون مستعملاً لوصف تفاعلات الناس والمؤسسات في مكان محدد.
في مقالة ستيفاني بيلي (ما وراء المكان) في العدد الـ92 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في آذار – نيسان 2015؛ تعلّق الكاتبة على مناقشتها أثناء نشر آرت بيزل عام 2014 في هونغ كونغ، حيث دعت فناني هونغ كونغ الذين (تجاوزوا عدم وجود نظام بيئي، ناهيك عن قلة أمكنة العرض قبل الازدهار الحالي للفن في المدينة).
فنانون مثل ليونغ تشي وو من بارا سايت، ولام تونغ بانغ من فوتانيان، وتشو هينغ واه من جمعية الفنون البصرية (VAS) في هونغ كونغ؛ أسسوا منظماتهم الخاصة بهم، كي يملأوا ما هو موجود من ثغرات في المشهد الثقافي، حيث رعى نموذج بارا سايت ممارسات التقييم الفني، فيما أقام فوتانيان استديوهات مفتوحة سنوياً، وقامت هونغ كونغ (VAS) بدعم الفنانين، وتم تقديم مساحة للنقد، وكانت تلك المنظمات مكونات أساسية في تعزيز نظام بيئي ناجح.
بالطبع لم تكن هونغ كونغ المكان الوحيد الذي شهد تطوراً فنياً سريعاً. ففي أغلب الأحيان اقترن اسم الإمارات العربية المتحدة – وخاصة إمارة دبي – مع “فنون النظام البيئي”. وفي مقالات محرر مكتبنا هناك كيفين جونز لم يرد ذكرها إلا في عموده المرسل إلينا للعدد الـ87 من آرت آسيا باسيفيك آذار- نيسان 2014، حيث كتب: (يمكن أن تغطي القوة التجارية للمدينة على عدم وجود مؤسسات، وعلى البنى التحتية المتخلفة لتعليم الفنون، وعلى التخوف من تنشيط نقد جاد)، لكن أيضاً من خلال حواره مع فنانيها وكياناتها التجارية ومؤسساتها والمؤسسين وجامعي الأعمال الفنية (آرت آسيا باسيفيك 93- 95/ 2015.
إن فن “النظام البيئي” اليوم وغداً يتطور خارج أبنية المؤسسات، وداخل شبكات الناس على المنصات الرقمية. وبينما أثّرت تخفيضات الميزانية على الأمكنة الحقيقية للفن؛ فإن المؤسسات ومحترفي الفن يستعملون الآن وسائط الاتصال الاجتماعي لمشاركة المهتمين بالفن وبالمانحين وبجامعي الأعمال الفنية. كما ناقش ميكائيل يونغ في مقالته (إلى أين تتجه صالات العرض الأسترالية في الخطوة التالية؟) في العدد 90 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في أيلول – تشرين الأول 2014. وبما أن عالم الفن يتحول بسرعة إلى العوالم الافتراضية؛ فإن سهولة الوصول النسبية بتكلفة بسيطة لوسائل الإعلام الرقمية؛ يجب أن تكون متوازنة مع ما فقدته عندما كان الاتصال المباشر ضعيفاً مع الفنانين وأعمالهم. فالأنظمة البيئية سواء كانت بشرية أم طبيعية فإنها تحتاج دائماً إلى إيجاد التوازن.
استعملت أوراق التين من أجل إخفاء الأعضاء التناسلية منذ جنة عدن. لكن الحكومات في كل أنحاء العالم تستمر في إحراج ذاتها، وذلك باتّباعها الخط ذاته لإثارة الانتباه فقط لما هو مخفي.
في العقدين الماضيين؛ أثبتت تكنولوجيا الإنترنت أنها سيف ذو حدين بالنسبة للرقابة والفنانين على حد سواء، مما يمكنه من انتهاك الخصوصية والحد من التعبير، إلى درجة لم يسبق لها مثيل في ذات الوقت، بينما توفر للأفراد مجالاً للتهرب من ساطور الرقيب، أو التواطؤ مع الرقابة بطرائق جديدة.
بالنسبة للفنانين؛ فإن الرقابة الذاتية التي تعرف بـ"الواقعية" كما كتب أحد المراسيلن عن الصين في “رسائل” للعدد 76 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في تشرين الثاني- كانون الأول 2011؛ يمكنها أن تنزلق إلى منحدر الامتثال والانضواء، أو إلى التبارز مع السلطات في لعبتها الخاصة.
في العدد الافتتاحي من آرت آسيا باسيفيك عام 1993؛ لاحظ القيم والناقد أبينان بوشيانادا أن (الرقابة الذاتية يمارسها العديد من الفنانين في تايلاند كي تصبح أعمالهم رائجة). وبصفة عامة يعرف الفنانون تماماً الحدود التي تفرضها الحكومات، والرقابة ذاتها هي غالباً الموضوع غير المرئي، أو غير المذكور في الأعمال الفنية. وبينما هم أقل عرضة للأذى من المعارضين السياسيين – لأن الفن يمكن أن يخدم النخبة الثرية – إلا أن بعض الفنانين مطاردون إلى حد يعزز سمعتهم، ويزيد شهرتهم.
اثنان من الأمثلة الواضحة هما آي وي وي (من ديفيد الصين إلى جالوت الصين)، والذي مكث وقتاً طويلاً على الشعرة الفاصلة بين الفن والمقاومة، وإم إف حسين الفنان الهندي المسلم الراحل الذي صدرت فتوى بقتله عام 2006 بسبب تصويره “الفاحش” للأم الهندية.
آي انتقد تعامل الحزب الشيوعي الصيني مع زلزال سيشوان عام 2008، ودعم محامي حقوق الإنسان؛ ما أدى إلى توقيفه 81 يوماً، وواصلت المحكمة الرسمية مراقبته على الإنترنت، ومن خلال أعماله الفنية.
انتقل حسين إلى الدوحة عام 2006 ليتجنب خطر اعتقاله وتهديده بالقتل من قبل القوميين الهندوس، لكن المحكمة العليا برّأته لاحقاً من جميع التهم الموجهة إليه.
رغم أن الرقابة نادراً ما "تبتسم"؛ إلا أنها قد ترتفع إلى مستوى المهزلة. ففي عام 1996 حاول وزير الزراعة النيوزيلاندي سحب صور ماشية مريضة للفنان بيتر بيرير من معرض أقيم في آخن الألمانية خوفاً من انخفاض صادرات الأبقار المحلية، كما ورد في العدد 9 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في كانون الثاني – شباط 1996. وجاء في عناوين الصحف النيوزيلاندية: (الفن يأخذ منحى سيئاً). ففي هونغ كونغ تمت تغطية الأعضاء التناسلية لتمثال برونزي للنحاتة الإنكليزية ديم إليزابيث فرينك بورقة تين مصنوعة من الورق المقوى عام 1995، وذلك عندما ادعت الرقابة أنه غير لائق لفتيات المجتمع كما ورد في العدد الـ10 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في نيسان – أيار – حزيران 1996، لكن المحكمة العليا نقضت الحكم.
ليس من المستغرب أن يكون العدد الأكبر من الاستشهادات على الرقابة في آرت آسيا باسيفيك من سنغافورة، وهذا أمر جيد إذا قارناها ببلدان مخنوقة مثل كوريا الشمالية، وميانمار قبل انفتاحها مؤخراً، حيث الرقابة ذاتها تقع تحت الرقابة. لكن حوادث الرقابة تمتد من الولايات المتحدة الأمريكية (فيما يتعلق بالإرهاب)، إلى اليابان (هيروشيما)، وفرنسا (القسوة على الحيوان).
أما في تايلاند وسنغافورة والصين فإن أشكال الطعن بالحكومة هي غالباً “خط الهجوم الأول”. بالتأكيد؛ الرقابة القاسية في الصين هي التي ترفع مستوى المشكلات البسيطة، وتحولها إلى قضايا من عيار ثقيل. وبالنسبة للفنانين في بعض البلدان؛ فإن الرقابة مثل جنون العظمة، فهي بمثابة محفّز.
من الفنان الصيني هوانغ يونغ بينغ الذي أثارت تركيباته المحشودة بالحيوانات جدلاً في باريس نقتبس: (الرقابة تمثل ذاتها بكل الأشكال. فمن الصعب أن نتخيل مجتمعاً بلا رقابة. وهذا ليس عنصراً سيئاً بالضرورة. إن فرض قيود معينة يفرض اندفاعاً نحو الإبداع).. وهو ما ورد في العدد 92 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في آذار- نيسان 2015.
إن ظاهرة إحياء ثقافة الماضي ميل اجتماعي متكرر شهد شعبية خاصة في الأعوام الأخيرة. فالأفلام القادمة من هوليوود على سبيل المثال؛ تعيد بصورة متكررة إنتاج أفلام كلاسيكية، كما تستوحي علامات الأزياء الكبرى على نحو متزايد تصميماتها الجديدة، وذلك بالعودة إلى أزياء ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وفي عصر العولمة الرقمي هذا؛ ربما كانت موجات الإحياء الثقافي نتيجة رغبة الناس بالاتصال بجذورهم، واستعمالهم ذلك كمصدر إلهام لإنعاش هوية أصلية .
إن الدافع لإعادة النظر في التقاليد والتراث ليس حكراً على عالم الأفلام أو الأزياء، أو ليس خاصاً بالأزمنة المعاصرة. وحسب مؤرخة الفن سيسيليا ليفين؛ فقد شكّل ذلك قضية أثارت اهتمام باحث الفن الياباني أوكاكورا كاكوزو مطلع القرن الـ20، عندما سافر إلى الهند (ليشجع إحياء الفنون التقليدية في آسيا كطريقة لمواجهة تأثير الموجة الثقافية القادمة من الغرب التي تجتاح القارة) كما ورد في العدد 62 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في آذار- نيسان 2009.
أواسط ثمانينيات القرن الماضي؛ أسفرت إيديولوجية مشابهة عن ظهور المدرسة الأدبية الجديدة في الصين. (كان تركيزها – حسب رأي باحثة الفن الصيني فرانسيسكا دال لاغو – على إحياء تقليد ضربة فرشاة للرسم بالحبر، وتخليصها من عناصر الواقعية الاشتراكية التي فُرضت عليها في القرون الثلاثة الماضية) كما ورد في العدد 19 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في تموز- آب 1998.
وتعليقاً على هذه الحركة بعد مرور عقد على ظهورها؛ كتب الفنان والكاتب الصيني شو هونغ (خلافاً لتوقعات الكثير من الناس بأن الرسم الصيني سينقرض تقريباً مع نهاية القرن؛ فإن ذلك لم يحدث مطلقاً، بل كان هناك سعي لإحيائه والاهتمام به) كما جاء في العدد الـ2 من آرت آسيا باسيفيك نيسان – أيار – حزيران 1994.
على النقيض من مدرسة الفن الصينية “الجنوبية” أو الجديدة؛ ظهر فنانون اعتمدوا على الأشكال الفنية التقليدية، ورجعوا إلى أساليب أكثر تجريباً، مثل الأعمال المستوحاة من فن الخط العربي لشو بينغ، وأعمال تساي غو تشيانغ المرسومة بالبارود، والمنحوتات الأثرية لهوانغ يونغ بينغ. وقد كتبت تيفاني واي يينغ بيريس في العدد الـ86 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في تشرين الثاني – كانون الأول 2013: (هذا الجيل من الفنانين، والعديد ممن عاشوا أو لا يزالوا يعيشون في الخارج، ومن كانوا ناشطين منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ قاربوا موضوع التقليد هذا من خلال عدسات الفكر الغربي والفلسفة… لإعادة تفسير وتفكيك الأشكال الفنية الكلاسيكية الصينية). وبدل ذلك لاحظت بيريس أن جيل ما بعد سبعينيات القرن الماضي من الفنانين الصينيين التقليديين الجدد لديهم المزيد (من الرغبة الإحيائية للاصطفاف مع الماضي الصيني) و(ليعيدوا الاكتشاف والفهم والبناء على أساس تراثهم الثقافي البصري الخاص، وعلى التقليد الأدبي الذي ينتمون إليه).
من الطبيعي أن الظاهرة الإحيائية لم تكن محصورة بالفن الصيني، ومع الصعود الأخير لاهتمام عالم الفن بالآسيويين والاعتراف بهم؛ نرى المزيد من ثقافات المنطقة الغنية بتراثها الفني تشهد توجهاً لفنانيها المعاصرين الذين يحتضنون تقاليدهم المحلية كجزء من ممارساتهم الفنية، وتتراوح هذه الأعمال من عائشة خالد وعمران قرشي (زعيمي الإحياء لرسم المنمنمات الباكستانية) كما ورد في العدد الـ97 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في آذار- نيسان 2016؛ إلى عودة الفن الإسلامي التقليدي والأعمال اليدوية بين الفنانين الشباب في المملكة العربية السعودية، كما لاحظت بسمة فلمبان في العدد الـ88 من آرت آسيا باسيفيك الصادر في أيار – حزيران 2014.
وبالنظر إلى ما وراء الحضور الطاغي للغرب؛ فإن جيلاً من الفنانين عبر العالم يتوجهون نحو الداخل لإعادة تأسيس سنن وهويات خاصة بثقافاتهم.
HANAE KO