في أعقاب العنف، ما الذي يمكن أن تقدمه صور تتأمل الماضي الجارح وتسائل مستقبله؟
في مركز بيروت للفن عرض سبعة فنانين عالميين معاصرين أعمالهم في معرض “ما بعد الصورة”، والتي تراوحت بين التصوير والفيديو والنصوص والإنشاءات، إضافة إلى أرشيفين وثائقيين، وقد هدفت جميع الأعمال إلى سبر عملية إنتاج وتوظيف وتعميم الصور التي تولد من هالة الصراعات.
تحتل فكرة الغياب مساحة واضحة في الأعمال المعروضة، فالحقيقة المطلقة واليقين والمعنى كلها عناصر تفتقدها صور الميديا، وخصوصاً تلك المرتبطة بالعنف، كما هو الحال مع الصور المخاتلة عن مناطق الصراع للمصورة الفرنسية “صوفي ريستيلهوبير”، والأعمال النصية والفيلمية غير المباشرة حول الأوهام البصرية والخدع سياسية كانت أم ثقافية للفنان ولصانع الأفلام اللبناني “جلال توفيق”، بالإضافة إلى الفيديو الذي يدرس مشاكل نقل المعلومات وبناء المعنى عبر مزاوجة صور وكلمات متباينة لمنظّر الميديا الألماني “بوريس غرويس”، ومن خلال أعمال الفنان اللبناني نيويوركي الإقامة “وليد رعد” ظهرت لذاعة الصور وحدّتها على خلفية الأحداث الصادمة، وأبرزها استكشاف أثر الكوارث على الثقافة.
يتأمل العملان التعاونيان “أرشيف النكبة” و"الصحراء الغربية: بضعة صور" في إنتاج الصور، باعتبارهما عملي مقاومة ضد خواء التمثيلات التي يفرضها الاحتلال والمنفى والرقابة، في حين يسائل “حسن خان” المقيم في القاهرة، والفنانان اليابانيان “ماساو أوكابي” و"تشيهيرو ميناتو" موضوع استحالة تمثيل الـ"تروما" من خلال الصور، وذلك مع ظهور وسائط إنتاج تسعى إلى التعويض عن القيود التعبيرية للصور البصرية.
كان “الوجه المظلم للضوء” 2011ـ2002 لـ "أوكابي"و"ميناتو" أحد أكثر الأعمال تعبيراً عن التعقيدات الملازمة لتمثيل العنف وآثاره، فهو يلقي الضوء على تمثيل كل من التاريخ وتواصل مرور الزمن على هيروشيما، ذلك المكان الذي كان رمزا، أولا، وضحية، ثانيا، للتوسع العسكري والامبريالية.
شهدت محطة سكة حديد “يوجينا” التي أنشئت سنة 1894 لتلبية حاجات الجيش الياباني، الهجوم الأمريكي النووي على هيروشيما، وبدل تحويل الموقع إلى نصب تذكاري للحرب من خلال تصوير الندب النفسية المستديمة بطريقة سطحية، خلق الفنانان اليابانيان تدلاكاًموضوعياً لأرضية المحطة، متتبعَين الصدوع والشقوق والخدوش والسطوح المتآكلة لهيكلها الحجري منذ إنشائها وحتى هدمها سنة 2001، وقد كان ذلك ثمرة دراسة تكوينية حميمية التفاصيل وشاقة، احتاجت 9 سنوات من العمل، وهو ما يقدم اعترافاً مادياً بمدى تعقيدات التركات المتعددة للموقع، والطبيعة الملتوية للتاريخ والروايات التاريخية، والتأصل الحتمي للتاريخ وجروحه في ذاكرة المستقبل، وقد اكتسب ذلك العمل الذي عرض في بينالي البندقية سنة 2007 أهمية أخرى في سنة 2011، وذلك أعقاب الكارثة النووية الأخيرة في محطة فوكوشيما النووية لتوليد الطاقة.
وإذا كان ذلك العمل يستحضر الأبعاد النفسية للـ"تروما" عبر دراسة آثارها المادية، فإن عمل (لغز)/2011 للفنان “حسن خان” يخلق شكلاً محسوساً تقريباً للاضطراب النفسي، وهو مكون من نص عدد صفحاته 14 صفحة طبعت على صفحات فارغة لروايات خيالية مصورة من الثمانينات، وينقل العمل ببراعة صوراً للإحباط والغضب والاستسلام، وذلك من خلال تقديمه الحكايات المثيرة عن المعاناة الناتجة عن الإذلال الطبقي في أماكن العمل، الذي هو بحد ذاته شكل من أشكال العنف.
لقد جعل معرض “مابعد الصورة” عبر صور غائبة وحاضرة من قضية التمثيل، وخاصة للصراع، والنزاع، والـ"تروما"، أشكالا مرئية، وقد أنتجت الأعمال الفنية والأرشيفات المعروضة ككل بيانا قويا حول الفن بشكل عام—غير الموثوق به جوهريا، والمفتوح للتأويلات المتعددة—بما هو أرضية شاهدة أو موثقة أو مقدمة للتاريخ، ومحرضة للذاكرة والانخراط النشط، في الوقت ذاته الذي يقوم فيه بمساءلة دوافع وحدود وتحيزات هذه الأعمال ذاتها، وباقتراح مقاربات بديلة. وقد ظهرت الممارسة والتمثيل الفنيين وسيلة يمكن معها الاستجابة لموقف معطى، والتقاط شعورنا بعده، والتدخل، وربما التحريض، على التغيير.