يقال إن اسطنبول تعيش الآن أوج ازدهارها، فقائمة المؤسسات الثقافية الخاصة أوالمدعومة شركاتياً، وبرامج منح الإقامة للفنانين، ومبادرات الفنانين المستقلين تشهد كلها توسعاً على نطاق غير مسبوق، وصالات العرض الطموحة تظهر دورياً في الضواحي المطلة على البوسفور، وعلى طول محور “بيشكيتاش- بي أوغلو- توب خانة”، وإن المشهد الفني الذي يبدو مثل مراهق طافح بالحماسة يقتات على سحر وإثارة حفلات الافتتاح الفنية الراقية في الشوارع الخلفية التي كانت يوماً غير أنيقة، والزمن وحده من سيحكم إن كان هذا مجرد مرحلة عابرة، ولكن في خضم دعم القطاع التجاري المحلي المتزايد للفنانين المبدعين فإنه من الضروري خلق توازن بين اهتمامات الفنانين والمعارض التجارية التي تجذب عادة مقتني الفنون والشركات الخيرية.
السؤال الكبير هنا هو: كيف يمكن للمشهد الفني أن يحافظ على ذاته على المدى الطويل؟ وهل ثمة مؤسسات كافية تقوم بتوثيق الإنتاج الثقافي، وبتقديم الفرص البحثية، وبتشجيع انخراط الجمهور وبالتفكير النقدي؛ في ذات الوقت الذي تدعم فيه الفن التركي المعاصر على المسرح الدولي؟ يلاحظ في اسطنبول خاصة أن السباق الحالي المحموم يجري إلى حد كبير من دون اعتراف بإنجازات العقود السابقة، ومن دون أي إحساس بالاستمرارية التاريخية، مع أن أجيالاً عديدة من الفنانين ومنظمي المعارض المرموقين ساهموا حقيقة في تطويرالفن المعاصر بتركيا، لكن الغالب أن يُعرف هؤلاء الفنانون الكبار في الخارج أكثر من الوطن، كما كان عليه الحال في بينالي البندقية هذه السنة.
لقد شهد الجناح التركي هذه السنة حضور شخصيتين سامقتين، أولاهما الفنانة “عايشة إركمن” التي تعد من عيون الرعيل الأول من الفنانين الأتراك المعاصرين، بأعمالها التي لم تتوقف منذ سنة 1969 في كل من تركيا وأوروبا الغربية، لتمهد بذلك الطريق أمام جيل أصغر من الفنانين المفاهيميين، حيث قدمت الفنانة في البينالي عملها (الخطة ب)/2011، وهو عبارة عن شبكة متعددة الألوان من أنابيب، ووحدات تنقية للمياه المنسابة من قناة مجاورة، وقد قام بتنظيم عرض هذه المنحوتة المتاهية “فوليا إردمسي” مديرة بينالي اسطنبول بين 1994 و2000، والتي قُدّم مشروعها “معارض المشاة” في 2002 و2005 مشاركات فنية شعبية، في واحدة من أولى المشاريع الفنية العامة في المدينة.
امتدت نشاطات قيمي المعارض الأتراك إلى جناح أذربيجان الذي عُهد به لـ “بيرال مادرا” المنظمة لأول وثاني بينالي اسطنبول سنتَي 1987 و1989، والمفوضة بالجناح التركي في البندقية سنتَي 2003 و2005، كما خضع الجناح الإماراتي لإشراف “واصف كورتون” الذي كان قيِّم بينالي اسطنبول الثالث، والقيم المشارك للبينالي التاسع، وقيم الجناح التركي في البندقية سنة 2007، وهو يشغل حالياً منصب مدير البحث والبرامج في “سالت” الفضاء الفني غير الربحي الذي افتتح حديثاً، ومما لا شك فيه أن كل هذه الشخصيات التي تعد بوابة العالم الأساسية للفن التركي ساهمت في وضع الكثير من الأسس الفكرية والثقافية لتطور اسطنبول الحالي.
وعلى الرغم من الحيوية التي تتدفق من مجتمع اسطنبول الفني الآن، إلا أنه يبقى عالقاً في نقاشات البلد السياسية، فقصة تاريخ الفن التركي المتشظية تعكس التاريخ السياسي لأمة شهدت ثلاثة انقلابات بين عامي 1960 و1980، سُبقت بقطيعة كبيرة مع تركة الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإحساس المتمزق بالتاريخ، والقبول العام بفقدان مريح للذاكرة الثقافية، لا يزال حاضراً.
استاء كثير من سكان اسطنبول جراء هدم نصب سلام نصف مكتمل للفنان “محمد أكْسُوْي” في مدينة “كارس” الشرقية، والذي كان الغرض منه تعزيز العلاقات الآخذة بالتحسّن بين تركيا وأرمينيا، وفي حين منعت خلافات من إكمال العمل سببها مجاورة النصب موقعا أثري ومقاما، فإن إزالته التامة أعقبت وصف رئيس الوزراء المحافظ رجب طيب أردوغان له في أوائل 2011 بأنه “عمل منحرف”، ومثل هذا النوع من التدخل السياسي وقع مؤخراً كذلك في "إزمير"، حيث خضع معرض أفلام فيديو يملكه مركز “بومبيدو” إلى رقابة شديدة على يد مدير المركز الثقافي الفرنسي في إزمير “جان لوك مايسو”، ومدير مركز “ك 2” الفني “آيشيغول كورتل” اللذين سحبا “لأسباب سياسية” أعمال ثلاثة فنانين هم “بيرات إتشيك” و"إركان أوزغين" و"كوكين إرغون".
ولأن المشهد الفني التركي يخضع في نموه لحركة مد وجزر، فإنه يبقى غِرّا معرّضاً لعثرات الطريق، بالإضافة إلى كونه صورة مصغرة عن الخلافات الأكبر في تركيا بأسرها، ومما لا شك فيه أن قضايا الرقابة والتوتر الحاصل بين النمو الاقتصادي والنزاهة الفكرية تشكل تحديات عليها أن تلهم إنتاجاً أكثر نقديّة، غير أن أكثر المشاريع أهمية هو أن تقدم المؤسسات سياقاً يمكن من خلاله تحرير الذاكرة التاريخية في معارض وأرشيفات بشكل يجعلها متاحة أمام الجمهور المعنيّ بالبحث والنقاش.