والسؤال المطروح هنا هو: حين يتلقى فنان ما عرضاً لعمل مشروع، فكيف يمكنه أن يوفّق بين نزاهته ومصالح الجهة التي فوّضته؟ ولمن تعود الفاعلية التي سيعبّر عنها العمل في النهاية؟ للفنان أم للجهة الداعمة؟
مثل هذه الأسئلة يطرحها “بوراك ديلير” في عمله (أمنية المقتني)/2012 الذي رأى النور في صالة عرض “بايلوت” في اسطنبول أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، وذلك من خلال توثيق محادثاته مع راعٍ معروف للفنون، وعرض ما طلب إليه أن يعمل.
تبدو بنية (أمنية المقتني) بسيطة تماماً، إذ طُلي أكبر جدران المعرض بضربات فرشاة أفقية ملأته من سقفه إلى أرضه باحمرار قرمزي قرميدي، في حين وُضع على جدار مجاور جهاز عرض يبث فيلماً مدته 9 دقائق لـ “ديلير” وهو يتحدث إلى المقتني “ساروهان دوغان”، وعلى الجانب الآخر من الصالة وُضِع حامل عليه نسخة من قصيدة للشاعر “محمد عاكف إيرسوي”.
ومما جاء في الكلمات الأولى من الفيلم حين كان ديلير يسأل دوغان: (هل لك أن تخبرني بالضبط ما الذي تريدني أن أفعله، ساروهان باشا؟)، ويتضح أن ما نحن بصدده ليس تفويضاً عادياً، بل حالة فنان يُخضِع إرادته لرؤية المقتني الذي يتضح ـ في المقابل ـ أنه مفكر مفهومي مفوّه.
يُملي “دوغان” أوامره بدهن الجدار بالأحمر، شارحاً أن ذلك العمل يدور حول (قصة كانت جدتي تقصها لي حين كنت طفلاً)، وموضحاً كيف أن هذه الحكاية مبنية على قصيدة من أوائل القرن الـ 20 كتبها “إيرسوي” تحت عنوان (الرسام على حق)، يظهر فيها أحد الأغنياء الجدد أنه راغب بزخرفة فيلَّته الجديدة بجدارية، وفي يوم ما يظهر رجل فجأة ويعرض القيام بالعمل، وسرعان ما يغطي الجدار بأقدامه الـ18 قدماً بطلاء أحمر، موضحاً للرجل الغني أن هذا إنما هو تصوير للحظة النصر بعد عبور النبي موسى البحر الأحمر بأمان، وعلى الرغم من ارتباكه في بادئ الأمر، إلا أن مالك الفيلّا بارك للفنان عمله، وقال: (يا لها من جدارية رائعة خلقت في الغرفة بهجة كبيرة).
يخبر “دوغان” “ديلير” كيف يطلي الجدار، ويشرح لماذا ينبغي على الجدار في الحقيقة أن يكون أكبر من 18 قدماً: (ضخامة الجدار مؤشر على غياب أخلاق الأغنياء الجدد.. يجب علينا أن نطلي بالأحمر جداراً هائل الضخامة إلى درجة أن غنياً جديداً في أيامنا سيراه قائلا: (يااااه.. ما أكبر هذا الجدار)، وهنا تكون اللحظة التي ندرك معها أن المفوّض بالعمل هو الذي يرغب حقيقة في توصيل أفكار نقدية، إذ لا يطرح “ديلير” أفكاره الخاصة أبداً، بل يمتثل بإخلاص لطلبات “دوغان”.
يحتّم منطق أو ألاعيب النقد المؤسساتي أن يكون للفنان اليد العليا دوماً باعتباره من يهاجم النظام من داخله، ولكن مع خصخصة النقد المؤسساتي فإن الفنان والمقتني يقلبان الأمور عبر اشتراكهما معاً في السخرية من البرجوازية الجديدة ومن ذوقها الرديء، وتطلعهما للعبِ دور في الثقافة الراقية.
ومن وجهة نظر “ديلير” فإن الظاهر أن كشف مثل هذا التحالف غير المقدس هو ما كان يسعى إليه، ولكن إذا كانت وجهة النظر الناقدة تعود في الظاهر إلى "دوغان"، فهل تخوّل سلبية “ديلير” الشديدة صاحبها امتلاك الكلمة الأخيرة، أو الاحتفاظ بموقف خارجي؟
لا ريب أن “ديلير” يعرض ديناميكية هذه العلاقة من خلال إخضاع ذاته بشكلٍ واعٍ لرغبات المقتني المثقف الموسر الذي يجسّد نظاماً اقتصادياً يملك فيه الأغنياء رؤية نقدية شخصية تكون المؤشر الأعلى على رقيهم الثقافي والمالي، وبعد إمعان النظر في الرقعة الواسعة من جدار “دوغان” الجديد الأحمر، والخالي من أية قيمة عاطفية أو معنى للمشاهد، فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل: (ماذا دهى هذه الصورة؟).