احتاجت المصورة “لمياء قارقاش” أن تنتقل إلى لندن للحصول على درجة الماجستير في كلية القديس مارتن المركزية للفنون والتصميم كي تبدأ في ملاحظةِ سرعة التغيير التي تعصف بمدينتها دبي، وقد تزامنت مراحل دراستها الأخيرة سنة 2007 مع ذروة الجنون الجمعي الذي وصلت إليه دبي، حين كانت أحياء بأكملها تظهر وتختفي في غضون أشهر، وقد أثمرت هذه الفترة ذاتها سلسلة الفنانة التصويرية (الحضور)/ 2006-2007؛ التي وثقت مساكن شبه مهجورة على وشك الإزالة بعد أن تركها أهلها طلباً للاستقرار في بيوت أحدث.

بدا الجوّ الكئيب الذي سيطر على تلك الصور مثل نبوءة غريبة، لا سيما في أعقاب الأزمة الاقتصادية عامي 2008-2009 حين ترك مغتربون سياراتهم الفارهة في شوارع المدينة وفروا هاربين.

وعلى الرغم من أن العطب الاقتصادي قد محا بعضاً من المشاريع الحالمة لدبي، إلا أن المدينة لا تزال تعرف بنموها المتسارع، واتجاهها الطموح في استيعاب الثقافات، ورغبتها في التجدد المتواصل، وقد عايشت “قرقاش” المولودة سنة 1982 معظم سنوات ازدهار الإمارات العربية المتحدة، وأولى أزماتها الكبرى، وتعافيها الحاليّ، وعلى مدار مسيرتها كلها عكست صورها لدواخل المساكن في سلسلاتها (الحضور) و(العائلي)/2009، و(المجلس)/2008-2009؛ التغيرات الزلزالية التي حدثت في الإمارات.

تصب “قرقاش” اهتمامها في (الحضور) على جدران وأثاث دواخل المنازل في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وما تمتاز به من ديكورات عفا عليها الزمن مثل التفاخر في الثريات وورق الجدران وأشكال التنجيد، إضافة إلى البلاط الزخرفي، وهو ما يمثل ثقافة ظهرت إبان الطفرة النفطية قبل 30 سنة، فنرى في صورة كرسياً يحدق في البحر في غرفة متداعية هجرها صاحبها، وفي أخرى نتعرف إلى أوراق جدران زرقاء صُفّت عليها كلاب مرقطة وآثار أقدام، وهي كل ما بقي من حياة الشاب الذي قطن الغرفة قبل أن يكبر في مكان آخر، وغالباً ما تركت أبواب الخزائن الصغيرة وأدراج غرف النوم مفتوحة، في إشارة إلى خروج مندفعٍ أو قسري.

تقف “قرقاش” وحدها تقريباً بين سكان الإمارات في اهتمامها بالكشف عن الصدمة المخفية في ثنايا تغيرات سريعة كهذه، فالإماراتيون يميلون إلى الانتقال من بيوتهم من دون الاهتمام باصطحاب أجهزتهم ولوازمهم العتيقة معهم، ومع ظهور ما تطلق عليه “قرقاش” اسم (الاستهلاكية المتكيفة Conformative Consumerism) فإن هذه الفضاءات سرعان ما غدت مهجورة خَرِبة، من دون أن تمنح أهلها الوقت الكافي للتعليق على هذا الانتقال، فضلاً عن الحزن عليه.

تقول الفنانة: (حاولت رؤية كيف كان ترك هذا الجيل تلك الأماكن ونفوره منها، والذي بدا مثل انقراض ثقافي لا مهرب منه، وناتجاً ثانوياً من الحداثة، واختفاء حقبة زمنية ستضيع بلا توثيق).

ويعد هذا الرحيل المتكرر مؤشراً على الانغماس في الترف، لكن ألا يمكن أن يدل أيضاً على أزمة هوية أو ثقافة بدوية متجذرة؟ حيث أن الكثير من الشباب الإماراتي وصفوا سياراتهم  بأنها بيوتهم.

شكّل نجاح (الحضور) سبباً لتكريم الفنانة باختيارها ممثلة عن الإمارات في جناح الدولة الافتتاحي في بينالي البندقية سنة 2009، حيث قدمت الفنانة أيضاً (العائلي)، وهي صور لدواخل فنادق النجمة الواحدة، وعلى الرغم من أن دبي تُعرف بمنتجعاتها ذات الـ7 نجوم، إلا أن “قرقاش” وجدت مادة أكثر غنى في مساكن المدينة الرخيصة التي تحمل وللمفارقةِ أسماءً براقة مثل (الأمير الملكي) و(الجوهرة الزرقاء) و(القصر الذهبي).

استمعت “قرقاش” بالعنصر الأدائي المصاحب للتصوير في هذه المؤسسات التي يديرها مهاجرون يشكلون 80 % من سكان البلاد، والتي نادراً ما شهدت نساء من مثل طبقة “قرقاش” الراقية اجتياز عتباتها.

استطاعت “قرقاش” في (العائلي) أن تخلق تصنيفاً مبهراً، مغذيةً بذلك فضولاً لرؤية ما يجري وراء الأبواب، وملتقطة الأساليب النافرة ما بعد الحداثية لهذه الفنادق، ولا يسع المرء إلا أن يفكّك كل صورة فيرى أين نشأت موضة القباب التزيينية فوق الأسرة؟ ما هو الدافع وراء تفضيل الستائر وأغطية السرير المزركشة المنسقة لونياً، ولوحات مناظر من جبال الألب، ومصابيح أطراف الأسرة المزينة بالقماش المطبوع، والتي لن تبدو خارج السياق في أماكن “السرير والفطور” الإنجليزية"؟.

وفي بهو فندقٍ عكست ساعات كثيرة ووفرة من الأزهار البلاستيكية المرور الرهيب للزمن، في حين تظهر إلى جانبهم الصور الكلية الحضور لشيوخ وأعلام الإمارات التي تبدو مثل تعويذة تعبّر عن ولاء مالك الفندق لبلده المتبنّى الذي لا يمنحه جنسيته، وقد أدخلت “قرقاش” في بعض الغرف بورتريهات عائلية على الطاولات الصغيرة التي توضع إلى جانبي السرير، وذلك بهدف تذكيرنا بالقصص الإنسانية الغزيرة التي مرت على أماكن كهذه.

واستكمالاً لسبر “قرقاش” للمكان وللذوق في الإمارات تأتي سلسلة (المجلس)، حيث تركز الفنانة عينَها الأنثروبولوجيّة على غرف الاستقبال التقليدية في بيوت الإماراتيين، وهي المتنفس بين الفضاءات العامة والخاصة المرسومة بعناية في المجتمع.

تسجل الفنانة كيف تناقش كل عائلة مكانها، بين “الأصالة” حيث صور الحائط وافتراش الأرض، و"المعاصرة" حيث الكنب ومكيفات الهواء والتلفزيونات، ويبدو المشاهد مدعواً في هذه الصور أيضاً للتأمل في الذوق العام، وما يكمن فيه من ميل نحو القديم حين يشاهد تلك الألوان الزاهية من الأزرق والأصفر، أو الخصائص الغريبة مثل صندوق مناديل مصنوع من رباط حذاء.

وعلى المستوى الشخصي فإن تواضع “قرقاش” لا يمنحك الفرصة لترى أنها رائدة، حيث استطاعت الفنانة أن تجمع بين حياة فنية ناجحة وزواج وأمومة في مجتمع يخضع لمنظومة الحياة الأسرية، ولأدوار محددة بصرامة بين الجنسين.

ومؤخراً بدأت “قرقاش” بالتدريس في الجامعة الأمريكية في الشارقة، وهو ذات المكان الذي كانت قد درست فيه سابقاً على يدي “طارق الغصين”، والذي تعترف الفنانة بفضله على مسيرتها، وذلك من خلال صوره المحكّمة بدقة، وبما توحي به من قصص الهجران.

ثمة تواصل موضوعاتي في أعمال الفنانة، وهو يتمثل في الأثر النفسي لضغط المجتمع على الفرد كي يمتثل إلى شروطه، فقد استكشفت “قرقاش” في مراحل دراستها سيكولوجية الحجاب قبل إنجاز سلسلاتها التصويرية حول شاعرية المكان، كما حققت نجاحاً مبكراً من خلال فيلمها القصير (بلاط مبلل)/2003، وهو دراسة عمقية لسيناريو غير مفسّر من الإكراه، وفيه تظهر امرأتان، إحداهما مكروبة، بالإضافة إلى رجل يحوم على حافة إطار الصورة.

وفي آخر مشاريع “قرقاش” التي قُدِّمت في أبريل/ نيسان ضمن معرض فردي لها شهدته صالة “الخط الثالث” في دبي، عرضت الفنانة ألواحاً مزدوجة لرجال ولنساء من خلفيات أجنبية، وإلى جانب التقديم المباشر لأبطال عملها؛ فقد خلقت الفنانة أثراً نفسياً يتمثل بالمبالغة في أكثر خاصية جسدية يمقتها هؤلاء الأشخاص لديهم، وذلك من خلال إضافة أعضاء اصطناعية، ليعكس ذلك كله كيفية رؤيتهم لذواتهم، وفي زمن أصبح فيه التغيير الشديد للشكل شائعاً إلى حد تحوله إلى تسلية تلفزيونية، فإن “قرقاش” تتتبّع كيف أن الضغط المجتمعي للامتثال يمتدّ من جدران البيوت إلى تخوم الجسد.